تصفية كامب ديفيد: ضرورة ومصير (1)

قد تبدو الفكرة للوهلة الأولى ضرباً من الجنون أو إستغراق في اللامعقول سياسياً، في ظل دولة/ طبقة حاكمة عتيقة التقاليد الأمنية والإستخباراتية، هذا من جانب؛ وكون هذه المنظومة الطبقية العسكرية في مصر تعمل بضراوة على ترسيخ أرضية التطبيع العلني والواسع مع الكيان الصهيوني من الخليج إلى المحيط، مع تشويه وقلب الحقائق التاريخية للحفاظ على "الوضع القائم".

  في الوقت الذي يحمل فيه عامنا هذا،2021، إعادة كتابة صحيحة للتاريخ بأيدي الفلسطينيين أنفسهم، من الوقوف ضد المد الإستيطاني في الشيخ جراح وسلوان وبيتا وبقية أنحاء الضفة الغربية، إلى الحرب الأخيرة وما مثلته قوة الفعل المقاومة بكافة أشكالها في غزة والضفة والداخل المحتل من ردع لعربدة ذلك الكيان المحتل؛ إنتهاءاً بملحمة نفق الحرية وإنتزاع الأبطال الستة لحريتهم من قلب سجن جلبوع رغم أنف الصهيونية وترسانتها الأمنية والعسكرية، ولو مؤقتاً قبل إعادة إعتقالهم.

 

                                                                 (1) 

   

  تتضح الضرورة التاريخية لإسقاط وتصفية منظومة كامب ديفيد الحاكمة في مصر، من كونها المتحكمة في كافة الأركان الإقتصادية  والسياسية والإجتماعية، تحكماً يخدم مصلحة الطبقة الحاكمة العالمية، وعلى رأسها الكيان الصهيوني. وما زيارة رئيس الوزراء الصهيوني نفتالي بينيت لمصر مؤخراً ومقابلته للجنرال الحاكم، إلا حلقة صغيرة من مسلسل التحكم هذا. 

  فالهدف واضح ومعروف: الإبقاء على الوضع القائم للصراع كما هو إلى حين تصفية أي وجود لقضية الشعب الفلسطيني التاريخية، فضلاً عن تشويه الوعي الجمعي للشعب المصري وشعوب المنطقة؛ وذلك بالإستعباد الإقتصادي وفق روشتة صندوق النقد الدولي المفروضة بالقوة على الأغلبية الكادحة في مصر.

  وأما ما يتم ذكره في نشرات الأخبار ووكالات الأنباء بأن هدف تلك الزيارة اللعينة هو "إعادة إحياء عملية السلام"، لمحض رماد كثيف يحجب حقيقة ما يدور في الكواليس بعيداً عن أنظار عامة الشعب. فنفتالي بينيت المعروف بتصريحاته ومواقفه العلنية والمستمرة عن عدم رؤيته لما يسمى "الدولة الفلسطينية" أو أنها يجب أن تكون في قطاع غزة فقط، أو حتى عقيدته الصهيونية المتطرفة دينياً في رؤية شعوب المنطقة والشعب الفلسطيني على أنهم من الأغيار، وإن سمح بوجودهم فلن يكون إلا لخدمة "شعب إسرائيل المختار"، هذا هو من كان يبحث في شرم الشيخ مع الجنرال الحاكم لمصر "إعادة إحياء عملية السلام".

                                                           (2) 

 

  في هذه المرحلة التاريخية المصيرية تتجلى ضرورة إيجاد صورة أو شكل من العمل المنظم بهدف تصفية منظومة كامب ديفيد في مصر، وسيرد الخطاب التطبيعي كعادته على مثل هذا الطرح بوصفها حنجورية الجوفاء. إلا أن تفنيد أسباب وجود هذه الضرورة كفيلة بالرد وبصورة واقعية ومادية ملموسة تنفي صفة الحنجورية المدعاة هذه.

  إن تفكيك الخطاب التطبيعي المستعر في هذه المرحلة التاريخية، هو أول مهمة في إتجاه تصفية كامب ديفيد، وتقتضي أولاً، السعي لتأسيس خطاب تقدمي وتحرري مناهض للطبقية والحكم العسكري والتبعية لمسار الصهيونية العالمية؛ وثانياً، الربط المادي بين أدق مشاكل المجتمع المصري من الإفقار الممنهج لصالح الرأسمالية العالمية، والقمع السياسي والاجتماعي المستمر بصبغته العسكرية لقرابة السبعة عقود، وبين القضية الفلسطينية وتطوراتها التاريخية الأخيرة في العام الحالي وهو ربط موضوعي له أسسه التاريخية الراسخة، ليكون ذلك الخطاب نواة وقاعدة لبرنامج وبديل ثوري غائب عن مصر منذ عام 2011.

  ذلك إن المستفيد الأول من إفقار الشعب المصري وسحق طبقاته الفقيرة الكاسحة وفقاً لروشتة صندوق النقد الدولي وبرنامج إعادة الهيكلة، الرأسمالية العالمية للاستعمار الجديد بكل بساطة، فهي اليد التي تمول بناء المستوطنات الصهيونية أو تقدم المعونات العسكرية للكيان المحتل كما يتم دائماً، ومؤخراً بقيمة 735 مليون دولار تشمل صواريخ عالية الدقة، في ذات الوقت الذي تسعى فيه هذه الروشتة لرفع الدعم عن الخبز وغيره من كافة الخدمات والحقوق الخاصة بمقدرات وثروات الشعب المصري. وهي نفس اليد التي تمول سراً وعلانية سد النهضة، للمضاربة والسيطرة على حقوق الشعبين المصري والسوداني في مياه النيل؛ يد الإستعمار الجديد.

  اللسان الذي ينتقد أوضاع حقوق الإنسان في مصر، هو ذاته من يعقد مع النظام الحاكم في مصر صفقات سلاح لا حصر لها أو معونة عسكرية سنوية أو يشيد بدور الرئيس المصري في الحفاظ على الوضع القائم وإيقاف الحرب الأخيرة لبحث "سبل السلام". وهو نفس اللسان الذي يعتبر أبطال نفق الحرية إرهابيين أو أن الكوفية الفلسطينية رمز من رموز الإرهاب.

  ويجدر هنا التوقف عند الدرس الذي قد سطره أبطال نفق الحرية بملحمتهم الأخيرة، وهو أن قوة الفعل المادي هي التي تخلق ما يسمى بالممكن، إذ أن المقاومة المسلحة أو بكافة تجلياتها الأخرى حق أصيل قبل أن تكون واجب.

 

                                                                   (3) 

 

  كما انتزع أبطال نفق الحرية حقهم الأبدي بصورة ملحمية، فإنه مازال من الممكن رغم القمع والحصار وقلب الحقائق في مصر، أن يتم العمل على تصفية كامب ديفيد والتخلص منها بصورة منظمة، لا تعود بنا للخلف ولذات الأخطاء التي إرتكبت في السنوات الأولى للثورة المصرية، مثل عدم الربط بين أهداف الثورة المصرية الأساسية وبين صراع الوجود الأزلي مع الصهيونية.

  وبعد مرور عقد كامل على الثورة المصرية، يجدر بنا الربط القوي والمادي بين قضايا الحريات السياسية وخروج المعتقلين والقضايا الاقتصادية الطبقية المصيرية من جانب، وبين الدعم الغير مشروط للشعب الفلسطيني ومقاومته والاشتراك معه بصورة فعلية ومادية في صراع الوجود المصيري ضد الكيان الصهيوني والرأسمالية العالمية.

  ولما كان تأسيس الكيان الصهيوني يحمل في طياته أسباب زواله، من كونه قائم على الترويج لعقيدة متطرفة دينياً، لا ترى سوى أن أصحابها يجب أن يسودوا العالم ويستعبدوا شعوبه لخدمتهم وخدمة خرافة هرتزل في تحقيق كيانهم الأكبر من الفرات للنيل، والذي يصلون لتحقيقه بقوة ترسانتهم العسكرية الإرهابية. يتأكد هنا القول بأن مجرد وجود الكيان الصهيوني هو أكبر خطر حقيقي يتهدد البشرية كلها.

  وهو ما يضيف لملحمة النضال الفلسطينية أنها تحتوي بداخلها على مكونات صراع طبقي عالمي، ذلك أن الشعب الفلسطيني كان ومازال يشكل حائط سد منيع لا ينكسر ضد كل من يريدون إستغلال البشر وإستعبادهم، ومازالت كل صور المقاومة المسلحة وغيرها شوكة في حلق الاستعمار الجديد ورأسماليته العالمية.



                                                                 (4)

  إن ضرورة ما يجب خلقه في مصر من إطار عمل منظم ضد منظومة كامب ديفيد، ليست برفاهية أو إبتعاد عن الواقع، بل هي الواقع التاريخي المادي الحالي بعينه. وصحيح أنه عملية شاقة لما تشكله منظومة كامب ديفيد في مصر من تشعب وتحكم معقد في كل ركن، ووحده العمل "المنظم" إذا انطوى على ربط حقيقي بين ما هو طبقي وما هو سياسي، هو السبيل الأكثر فعالية للتخلص من كامب ديفيد وإرثها الثقيل الذي يستعبد الشعب المصري ويسرق قوته وحريته لأكثر من أربعة عقود.

  وأياً ما كان شكل هذا العمل المنظم، سواء حملة توكيلات شعبية ضد بقاء كامب ديفيد ولو من خلال العالم الافتراضي، أو أية صورة أخرى تعتمد على كل الارتباطات الشرطية والموضوعية المذكورة سلفاً، هي السبيل الوحيد  لخروج آلاف المعتقلين في مصر؛ وليست تغريدات حكام العالم الأول الإستعماري أو إدانات المنظمات الحقوقية الدولية المحلية التي لا تسمن ولا تغني. ودرس الملحمة الأخيرة لأبطال نفق الحرية يكفي للتأكيد على أن قوة الفعل المادي هي التي تخلق الممكن.