قراءة في مشروع الوثيقة الفكرية السياسية البرنامجية للمؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي (2)

.تناول الفصل الثالث للوثيقة البنية الاقتصادية والاجتماعية في لبنان وتحت عنوان كيف جرى الانتقال التدريجي الى الرأسمالية في لبنان جاء في الوثيقة " الفصل الثالث: البنية الاقتصادية والاجتماعية في لبنان

1 - كيف جرى االنتقال التدريجي إلى الرأسمالية في لبنان؟

تميزت التشكيلة االقتصادية واالجتماعية الرأسمالية في لبنان منذ بداية تشكلها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر (بدءا من جبل لبنان) بضعف بنيوي في قاعدتها االنتاجية، وذلك كنتيجة لخضوع تلك التشكيلة تاريخيا لعلاقات انتاج رأسمالية تابعة فرضها التدخل الامبريالي، وتمخضت عن تحويل عملية تحرير القوى 

المنتجة من العالقات االقطاعية، إلى حصار محكم منع هذه القوى من أن تأخذ طريقها نحو التطور الرأسمالي الكلاسيكي التي كانت قد سلكته بورجوازيات الدول الغربية الرأسمالية. ولعب نظام العلاقات التبعية دورًا كبيرًا في تقرير السمات الأساسية للاقتصاد والمجتمع وتقسيم العمل وحجم ونوع آليات التشكل الطبقي 

في البلد، على غرار ما فعله في معظم بلدان المنطقة. وأضافت برز بشكل خاص التفاوت الطبقي وتعايش مجموعة أنماط الإنتاج حتى ماضٍ قريب نسبيًا الى جانب النمط الرأسمالي التبعي، خلافًا لما شهدته دول "المركز" التي تسارعت فيها تصفية علاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية. 

واعتبرت الوثيقة أن أهم العوامل التي اسهمت في تسريع النمو الرأسمالي التابع بعد الاستقلال، ترسيخ دور التجارة ومن ثم الخدمات، كمرتكزات أساسية للنشاط الاقتصادي. وأسهم في تعزيز هذا المسار عاملان أساسيان: نكبة فلسطين عام 1948 التي أدت إلى انتقال جزء من بورجوازيتها التجارية والمصرفية والخدماتية ومواردها البشرية واللاجئين من أبنائها إلى لبنان، ثم الاعلان في مطلع الخمسينيات عن الانفصال الجمركي بين سوريا ولبنان الذي أطلق العنان للبورجوازية اللبنانية في تقرير خياراتها الاقتصادية اللبيرالية المطلقة. وإنطوى هذان العاملان على أبعاد سياسية واقتصادية وطبقية ذات تبعات مهمّة على مجرى تطور الرأسمالية التبعية اللبنانية وخصائصها، إذ هما أديا إلى تسارع انفتاح الاقتصاد اللبناني على الأسواق التجارية الخارجية: بداية مع تحول مرفأ بيروت بعد نكبة فلسطين إلى بوابة الترانزيت الأساسية في اتجاه األسواق العربية الداخلية، ثم خصوصا مع تنامي تطلعات البورجوازية اللبنانية - إثر الانفصال الجمركي - نحو القيام بأدوار وساطة متنوعة بين هذه الأسواق وأسواق دول المركز الرأسمالي. 

وقد رأت الوثيقة عدة تطورات بينها الحرب الأهلية وتبعاتها وهجرة الكفاءات، قد سرعت في تبلور نموذج اقتصادي طفيلي وريعي، حيث نشأ في مطلع التسعينيات تحالف بين الزعامات الطائفية والبرجوازية اللبنانية، بتنسيق سعودي _ سوري _ اميركي، ممهدا الطريق بأساليب شتى – من ضمنها تنظيم الانهيار النقدي المصطنع في لبنان عام 1992 - أمام انطلاقة الحقبة الحريرية التي جسدت توظيفا سياسيا واقتصاديا داخليا وخارجيا متعدد الأبعاد. وقضى هذا التوافق بمواكبة تطبيق اتفاق الطائف الذي أريد له إنهاء ذيول الحرب الأهلية، وإرساء قواعد المحاصصة وتقاسم الوظائف والأدوار السياسية والأمنية والاقتصادية. وبدعم غير مشروط من البورجوازية اللبنانية، احتل موضوع "تحرير" الاقتصاد اللبناني ركنا أساسيا في أهداف الحكم المعلنة خلال تلك الحقبة. وتركزت المراهنة السياسية والاقتصادية للبورجوازية آنذاك على محاولة الاستفادة من التزامن الحاصل بين إنشاء "التحالف الدولي من أجل تحرير الكويت" الذي شاركت فيه كل من السعودية وسوريا من جهة، وتوقيع اتفاق أوسلو بين "اسرائيل" والسلطة الفلسطينية من جهة ثانية. 

في ظل مناخ دولي جديد متسم بزيادة "أمولة" الاقتصاد الرأسمالي، جاءت الحقبة الحريرية بدءا من مطلع التسعينيات كنتاج للتحالف الفج بين القوى السياسية والطبقية التقليدية الحاكمة وما سمي قوى الأمر الواقع" المنبثقة عن ميليشيات الحرب الأهلية، وهو التحالف الذي أذكاه أيضا ( كما سبقت الاشارة) التفاهم الدولي والاقليمي بقيادة الولايات المتحدة ومشاركة السعودية وسوريا. وأنتجت هده الحقبة، التي حظيت بتوافق وتضامن كل مكونات السلطة المنبثقة عن اتفاق الطائف، خلطة هجينة من السياسات العامة التي أسبغت الطابع الطفيلي المتصاعد على اقتصاد البلد ورسخت سماته شبه الريعية، كما يتبين من الاتجاهات الأساسية أهمها اعتماد النواة الحاكمة على سياسة التثبيت النقدي من دون أي ضوابط للسيطرة على االنفاق العام غير المنتج وعلى العجز المالي. وهذا ما أضعف حوافز الانتاج المادي المحلي وعزز الاستيراد على حساب هذا الانتاج بالاستناد إلى رفع سعر الصرف الخارجي للعملة الوطنية بعد ربطها المحكم بالدوالر الاميركي. ولأن استمرار التثبيت النقدي كان يقتضي على الدوام تحفيز تدفق رؤوس الأموال من الخارج عبر معدلات فائدة مرتفعة، فان هذا الواقع قد أتاح توفير أرباح هائلة لفئات طفيلية واسعة من دون ان يرتبط اغتناء هذه الفئات بأي عمل اقتصادي منتج فعليا في المقابل. ومن ضمن هذه الفئات بشكل خاص كبار المتمولين والمستثمرين والمتنفذين الذين دفعتهم الفوائد المرتفعة إلى الاحجام عن الاستثمار الرأسمالي في مشاريع إنمائية تتيح إنتاج فرص العمل المناسبة.

ورأت الوثيقة إن ما أفرزه النمط الريعي التبعي من تحولات داخل البرجوازية الكبرى والطبقة العاملة، تزامن مع تساقط شرائح من البورجوازية الصغيرة والفئات الدنيا والمتوسطة من "الطبقة الوسطى" – ّ بمن فيهم فئات من الأجراء - التي تشكل مجتمعة أكثر من ثلثي المجتمع اللبناني. هذا مع التذكير بأن "الطبقة الوسطى" عموما لعبت دورا مهما من الناحية التاريخية في تشكيل قاعدة النظام السياسي والاقتصادي القائم وفي تنويع مؤسسات بنائه الفوقي، كما سهلت عملية إعادة انتاجه بصورة شبه مستدامة. وإذ تعددت أسباب تساقط هذه الشرائح والفئات، إلاّ أن النتيجة بقيت واحدة: استمرار التراجع العام في الأحوال المعيشية للعاملين في الزراعة والمقيمين في الأرياف، وتعزز النظرة الدونية إلى شروط العمل المأجور لا سيما في القطاع الخاص، وتقلص فرص العمل اللائق بالتزامن مع ارتفاع معدلات البطالة والهجرة خصوصا بين الشباب وخريجي الجامعات (ذكورا وإناثا)، وحتى في صفوف خريجي المهن الحرة مهندسون ومحامون وأطباء،...الذين برزت بينهم ظاهرة الطبيب والمحامي والمهندس الذين تتميز

شروط عيشهم بقدر كبير من الهشاشة الاجتماعية، نظرا إلى أن مستوى دخلهم يكاد يلامس الخط مرحبا الأعلى للفقر.

لقد عكست هذه الوقائع نتائج استمرار التراجع المدوي في وزن القطاعات المنتجة وتدهور اقتصاد الارياف، ووقوع فئات وازنة من المنتجين ضحايا لتحكم المصارف بقنوات التسليف، وازدياد سيطرة الاحتكارات فضلا عن الضغوطات المتصلة بازدياد العبء الضريبي وبثقل بيروقراطية جهاز الدولة الإداري. 

وتحت عنوان مفهوم المجتمع المدني عالميا: الخلفيات النظرية والتوظيفات السياسية /المجتمع المدني والتوظيفات السياسية، رأت التوثيقة أن انهيار تجربة الاشتراكية المحققة جاء ليدفع القوى الرأسمالية نحو إعادة توجيه هذه النقاشات تحقيقا لهدف أساسي يخدم أغراضها: استخدام مقولة المجتمع المدني لتجاوز مفهوم الطبقات والصراع الطبقي، ولاعادة اجتذاب مروحة من القوى الشعبية والكوادر والمثقفين الذين استقطبتهم سابقا الحركات الشبابية والنقابية واليسارية العالمية. وتعزز هذا التوظيف الطبقي والسياسي بفعل عاملين أساسيين: الأول، انفكاك فئات اجتماعية واسعة عن الطبقة البورجوازية المهيمنة كنتيجة لترسخ النيولبيرالية المعولمة وازدياد االستغالل االجتماعي واإلقصاء والبطالة والفقر خصوصا بين الشباب؛ والثاني، تسارع انتشار حركات مدنية ذات مقاربات "موضوعاتية" جزئية ومبعثرة تتصل أساسا بمفهوم حقوق الانسان، وتتناول قضايا المرأة والجندر والشباب والفقر والبيئة وسلامة الغذاء وعمل الأطفال والمسنّين والمعوقين وغيرها من حقوق. ولما كانت هذه المقاربات الاستهدافية المحددة تطاول بشكل أساسي مكونات تنحصر في فضاء البناء الفوقي للنظام الرأسمالي وليس في أسسه ومرتكزاته القاعدية والاجتماعية، فإن القوى الرأسمالية العالمية جهدت كلما اشتد الصراع الطبقي إلى إحلالها كبديل للمقاربات الطبقية المادية المستندة إلى التناقض الأساسي بين قوة العمل ورأس المال. وقد استفادت هذه القوى موضوعيا من الفراغ الذي خلفه تراجع نفوذ الحركات الشيوعية واليسارية والنقابية العالمية وضمور قدراتها على استقطاب الشباب والفئات الاجتماعية المتساقطة، فضلا عن تقصيرها في خوض ما يخصها من المواجهة الدائرة في هذا الحقل الصراعي المتداخل مع حقول الصراع الأخرى، لا سيما حقل الصراع الطبقي. وهنا تتصدي الوثيقة لظاهرة المجتمع المدني في لبنان التي ليست صندوقا نمطيا مغلقا، بل هي تنفتح على فضاء اجتماعي وثقافي صراعي بامتياز بين من يسعى الى استخدام هذه الظاهرة كأداة لتجديد وتأبيد سيطرة الليبرالية الرأسمالية المعولمة _ ولو تستّر تحت شعارات الصلاحية زائفة_ ومن يسعى إلى جعل هذا المجال ميدانا من ميادين الصراع الاجتماعي والوطني إلى جانب الميادين النضالية الأخرى، وصولا إلى إعادة استقطاب فئات اجتماعية مرتبطة بهذه الظاهرة وكانت تلك الليبرالية بالذات قد دفعتها إلى التساقط والتهميش. والحزب يهدف إلى إعادة كسب هذه الفئات بالتحديد، وجعلها جزءا من التحالف الطبقي الاجتماعي الوطني العريض الذي تتطلع الطبقة العاملة إلى لعب دور أساسي فيه على طريق التغيير السياسي والاجتماعي المنشود.

إن تنامي الجمعيات والتيارات المدنية في لبنان قد شكل، جانب مهم منه، تعبيرا عن التحولات الاتماعية الناجمة عن تفاقم أزمة النظام الرأسمالي التبعي اللبناني وعجزه عن توفير فرص عمل لائقة وخدمات ومؤسسات عامة حديثة وفعالة، خصوصا في الحقبة التي تلت نشوء الظاهرة الحريرية وتحالفاتها الداخلية والخارجية في مطلع التسعينيات. وبرز دور هذه التيارات مؤخرا باشكال متفاوتة وأحيانا لافتة - كارتداد طبيعي للانتفاضات الشعبية العربية - خلال الحراكات الشعبية المتكررة منذ عام 2011، والتي تمخضت عن عثرات وأخطاء إلى جانب نجاحات جزئية. وإذ شارك خليط واسع من هذه الجمعيات في تلك الحراكات، فقد شكل بعضها احتياطا لمصالح سياسية وطبقية داخلية وخارجية ملتبسة، بينما عبّر بعضها الآخر عن اتجاهات اعتراضية على سياسات الحكم والممارسات الزبائنية لأطراف السلطة. ويفيد التذكير أن الحزب الشيوعي اللبناني نفسه كان خلال تاريخه النضالي الطويل رائدا في تكوين العديد من المنظمات المدنية الجماهيرية في صفوف العمال والنساء والشباب والعمل الصحي والاجتماعي والثقافي وغيرها. ويشكل انفتاح الحزب راهنا على فئات محددة من القوى المدنية – مع تمييزه الدقيق بينها - عملا صائبا من الوجهتين السياسية والطبقية. فهو يراعي المتطلبات الموضوعية لتمرحل نضاله بدءا من مرحلة النضال الديمقراطي العام وبناء الدولة العلمانية إلى مرحلة بناء الحكم الوطني الديمقراطي وصوال إلى بناء الاشتراكية، مع إدراكه بأن لكل من هذه المراحل تحالفاتها الخاصة وشعاراتها وسقفها السياسي. ويوفر انفتاح الحزب على المنظمات المدنية الأداة، من ضمن أدوات أخرى، لاستعادة موقعه في توازنات القوى وللتأثير أكثر في مواجهة السلطة الحاكمة وتوظيفها السياسي للطائفية في المجالات الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. لكن الحزب، كحزب للتغيير الاجتماعي والتحرر الوطني، يشدد في هذا االطار على أن انفتاحه المبدئي يجب أن يترافق مع تمسكه بمرتكزاته النظرية والفكرية الاساسية وباستقلالية قراراته المبدئية وانتظام عمله اللجتماعي والنقابي والتنظيمية. 

وفي الحلقة المقبلة والأخيرة سنتناول الجزء الثاني من الوثيقة: التقرير السياسي.