لبنان، حيث القديم لا يموت والجديد لا يستطيع أن يولد

مع تشكيل الحكومة الجديدة، تمضي السلطة اللبنانية في السير في سياسة الإنكار وإهمال الاستحقاقات الضاغطة، وهي السياسة التي درجت على مدى عقود على اتّباعها في إدارة البلاد، غير آبهةٍ بالمطالب التي رفعتها حركة الاحتجاج المطالبة بالتغيير. وفي الوقت عينه تزيد من أشكال انقضاضها على الحراك عبر توتير الأجواء الأمنية، فتتكرّس مصاعب هذا الحراك. وتزيد هذه المعضلة الجديدة، من مشكلات انتفاضة اللبنانيين التي بدا أنّ الظرفين الذاتي والموضوعي تناغماً في جعلها تقترب من الخبوِّ. ومع أن أركان السلطة اللبنانية لم يعودوا يقودون أتباعهم كما سبق وفعلوا، على الرغم من استمرار تَسَيُّدهم، إلّا أن الانتفاضة لم تصل إلى مرحلة مراكمة النجاحات والبناء عليها من أجل الاستمرار وتحقيق أهدافها.

وفي ضوء هذا الواقع، تحضر مقولة المفكر لإيطالي، أنطونيو غرامشي، حول القديم الذي يحتضر والجديد الذي لا يستطيع أن يولد بعد، لكن مع فارق أن قديم لبنان دخل في حال احتضارٍ طويلةٍ، بينما ثبت أن البديل سيحتاج إلى مخاضٍ طويلٍ، هو الآخر، لكي يولد. واستنتج في كتابه "كراسات السجن" الذي صدر في إيطاليا قبل تسعين سنة أن ما سمّاه "أعراض مرضية" ستظهر خلال هذه الفترة. وخلال فترة ظهور هذه الأعراض ستتكرُس واضحةً أزمة السلطة، وهي الأزمة التي قال إنه خلالها ستنْفُرُ الجماهير من الأيديولوجيا الرأسمالية. وفي لبنان، رُصد نفور الجماهير من أيديولوجيا السلطة، أو بالأحرى، أيديولوجيا الفرقاء الذين يشكِّلون السلطة اللبنانية، ألا وهم زعماء الطوائف. وخلال المظاهرات والاحتجاجات التي عمَّت لبنان بعد انتفاضة 17 تشرين الأول، أعلن كثيرون انسلاخهم عن طوائفهم وخلعهم ثوب الولاء لزعماء هذه الطوائف، وكان واضحاً كم الوعي الذي تشكُل لديهم حول فقرهم وتسلّط زعمائهم عليهم. كما بات واضحاً أنهم لم يعودوا يتحمَّلون وجود هذا النظام الذي يفصل بينهم وبين المشاركة السياسية في إدارة البلاد وفق إرادتهم لا إرادة زعمائهم وممثليهم التقليديين.

ولا ترجع أزمة السلطة إلى فترة اندلاع الانتفاضة اللبنانية، بل تعود إلى ما قبل ذلك، إلى ما بعد اتفاق الطائف الذي كرَّس الحكم الطائفي في لبنان، والذي يستولد الأزمات الدورية؛ إذ تأتي كلّ أزمةٍ من رحم الأزمة التي تسبقها. ولم يحاول هذا الحكم إخراج البلاد من أزماتها الاقتصادية، بل عزّز تلك الأزمات عبر اتباع أسلوب الاستدانة من الصناديق الدولية وتكريس تبعية لبنان إليها. وخلال فترات حكم الحريري الإبن، وحكم رجال من تياره، استمرت هذه السياسة حتى وصل الدَّيْن العام في لبنان إلى أرقام فلكية تحتاج أجيالاً كثيرة لكي تردّها.

وبسبب غياب السياسات التنموية أصبحت الحكومات حكومات إدارة أزمة، لا حكومة تتنطّع لحلها. وقبل اندلاع الانتفاضة الحالية، ومع غياب أي خطة حكومية، أو حتى رغبة، في الإصلاح، وجد الحريري، بداية سبتمبر/ أيلول الماضي، وجوب إعلان حالة الطوارئ الاقتصادية، لتفادي الانهيار الاقتصادي المحتوم وتَحَوُّلِ لبنان إلى دولةٍ فاشلةٍ. لكن الحريري لم يعلن تلك الحالة، لأن أفرقاء السلطة، من زعماء الطوائف، يفتقرون لأي نية في إصلاحٍ يحوّل لبنان إلى دولة يحكمها القانون، وفي الوقت عينه يقامون إعلان موت سلطتهم التي باتت في طور العجز.

ومع افتقار النظام السياسي اللبناني القدرة على تحقيق المطالب التي ما زال يرفعها المنتفضون، منذ 17 تشرين الأول الماضي، تبرز معضلة هذه الانتفاضة اللبنانية التي لا تستطيع أن تطرح البديل الذي يجب أن يضعه قادةٌ لم يفرزهم الحراك بعد، وفي الوقت عينه لا يستطيع المنتفضون العودة إلى منازلهم وترك كل ما أنجزوه يضيع فيزداد توحُّش السلطة ويزداد بالتالي فقرهم ومعاناتهم. كما لا يمكن للانتفاضة التسليم بأن السلطة ساقطة لا محالة بسبب أزمتها، وأجلها المحتوم الذي ستتسبب به هذه الأزمة؛ إذ إن سقوطها يتطلب انسلاخ مزيد من التابعين للطوائف عن طوائفهم وخلع عباءة الولاء لزعماء هذه الطوائف وتجيير الولاء للوطن وحسبْ. لكن الظرف الذاتي الذي تمرّ به قوى الانتفاضة، إذا افترضنا أن هنالك قوىً لهذه الانتفاضة، هذا الظرف لا يزال غير ناضجٍ، وهو النضوج الذي يفترض به أن يكسبها مزيداً من التأييد الشعبي الذي كان في بداية اندلاعها.

ولا زالت السلطة اللبنانية تعيد إنتاج نفسها، وهو ما أثبته تشكيل حكومة حسان دياب الجديدة التي قيل إنها حكومة اللون الواحد بسبب وقوف حزب الله خلفها. وإن كان ذلك صحيحاً، فإنه لا يثبت سوى أن قوى السلطة ما زالت تراهن على عامل القوة والسيطرة لفرض وجودها، بدلاً من الرهان على عامل الإقناع الذي تكرِّسه إنجازاتها وإصلاحاتها التي ما زالت عاجزة عن الاضطلاع بدور تنفيذها. كما أن تبعية الحكومة، أو معظم مكوّناتها، لفريقٍ متمكّن ضمن السلطة، لا يعني سوى أن منطق مواجهة المنتفضين بالقوة في الساحات، قد انتقل إلى أروقة الحكومة لمواجهة مطالبهم بالرفض. ولا يتيح تفرُّدُ فريق واحد بالحكومة، سوى فعلٍ واحد، هو دفع قوى الثورة المضادة، من أعضاء الحكومات السابقة ورموز النظام الطائفي، للالتحاق بركب الانتفاضة رداً على إقصائهم من قبل الفريق الذي شكَّل الحكومة، مما سيؤدّي بالضرورة إلى زياد مصاعب هذه الانتفاضة، وربما إفشالها.

شكّل فشل النظام اللبناني الذي تسبّبت به أزماته المتلاحقة فرصةً لتشكُّل وضع ثوري في لبنان، كان من الضروري التقاط لحظته والبناء عليها من أجل إيجاد البديل الثوري الذي لا يحمله سوى قيادة ثورية، وهذه واحدة من أبجديات النظرية اللينينية في الثورة. أما البديل، الذي طرحه غرامشي في صيغة "الجديد الذي لا يستطيع أن يولد بعد" فهو ينطبق على لبنان وعلى انتفاضته انطباقاً كاملاً؛ إذ بعد مضي أربعة أشهر على اندلاع انتفاضة الشعب اللبناني لم يظهر لهذه الانتفاضة رأس يقودها ويطرح رؤيتها ومشروعها في وجه رؤية السلطة التي ليس لديها سوى مشروع منع بناء الدولة.

وإزاء هذا الواقع، تحاول أجسام غريبة عن النضال المطلبي أن تطل برأسها، سواء عبر طرح نفسها قائدة للثورة، أو عبر تأسيسها إعلاماً ينطق باسم هذه الثورة، في إطار سعيها لحجز مقعد لها في لبنان الآخر الذي يمكن أن تخلقه ثورة هذا الشعب.