لكن القَمع لغة هو صرف الإنسان عمّا يريده ومنعه. وبالتّالي فإنّ القمع ليس فقط مرتبطاً حصراً بالمنظومات الكبرى مثل الأنظمة السياسيّة أو المؤسّسات ذات السّلطة على الإنسان. القمع جزء من الحياة اليوميّة للإنسان. فلنسأل أنفسنا فعلًا، ما عدد الأشياء التي نريدها ونتمنّى أن نفعلها لكن نمنع أنفسنا عن ذلك؟
إن أردنا تحليل الأمر براديكاليّة سنجد أنّ الإنسان مقموع منذ قبل وصوله إلى الدّنيا.
ربّما، كنطفة لم أكن أريد الوصول إلى الكوكب. ومن قال أنّني أريد هذا الإسم؟ هذه المدرسة؟ وحتّى هذه الخيارات، هل كانت فعلًا بيد والديّ أم "اختاروها" بناءً لمعطيات اقتصاديّة واجتماعيّة ودينيّة.
حتّى الخيارات التي نعتقد أنّها لنا وحدنا نمارس فيها رقابة ذاتيّة. ففي نهاية المطاف نحن جزء من مجتمع أكبر، ولا نريد لخياراتنا، ولو نريدها بشدّة، أن تعكس خسارة لنا على مستويات أخرى.
وإذا انتقلنا إلى معنى آخر من مصدر هذه الكلمة (ق-م-ع)، بضمّ القاف هذه المرّة، فهو أيضاً يطلق على إحدى أدوات المطبخ، المرتبطة بالحصر. ينخفض قطر القُمع تدريجيّاً ليسمح فقط بمرور كميّة صغيرة من الطّعام أو الشّراب، بحسب ما يسمح الجزء السفليّ منه. وإذا نقلنا هذه الصّورة إلى طريقة تفكيرنا نحن البشر، فنحن أيضاً نسبح ببحر كبير جداً من الأفكار والأمنيات، لكنّنا نعبّر فقط عن كميّة صغيرة جداً منها، بحسب ما تسمح البيئة التي نعيش فيها. وحتّى الأنظمة القمعيّة، فهي تسمح بمرور حدٍّ أدنى من الأفكار ولا تقوم بإغلاق سدّة القُمع نهائيّاً.
كثيراً ما يتمّ تداول موضوع الرّقابة الذاتيّة، لكن دون مناقشة نتيجته، وهي القمع. والأمر سيان عندما نتكلّم عن العنف المعنوي والعاطفي، الذي يُنتج أيضاً القمع. فكّروا في عدد الأشياء التي تودّون القيام بها، لكن خيبة أمل حبيب أو ردّة فعل شخص قريب جداًتمنعكم عنها..!
النصّ الثاني: قمع محسوم النتائج.. جنان خشوف
أذكر ليومنا هذا عندما تعلّمت عن قانون باسكال والذي ينصّ على أن "الضغط الواقع على أيِّ جزءٍ من سائل محصور في وعاء مغلق ينتقل بكامله وبانتظام إلى جميع أجزاء السائل ويعمل في جميع الاتجاهات"، أو بمعنى آخر أنّي - أنا أستطيع أن أرفع سيارة باستخدام المكبس الهيدروليكي، بسبب الضغط. منذ يومها وأنا أفكّر بالقوة الهائلة للضغط أو القمع..!
مع انكفاء شعلة ثورة 17 تشرين، شمت بي صديقي أن التغيير معروف البداية والنهاية، فأجريت بحثاً مطوّلاً عن تأثير القمع على الشعوب، وكيفية تأرجح تأثير القمع وزيادة ردّات فعل الشعوب المعارضة (الاحتجاجات والمظاهرات) بشكل U. إن القمع الذي تمارسه السلطات الديكتاتورية يولّد الخوف، وهذا الخوف يلجم حدّة التحرّكات الشعبية، ولكن في الوقت نفسه القمع يولّد الغضب، والغضب حتّى لو كمن لفترة معينة لا بدّ أن يعود ويلهب التحرّكات. (Brockett, 2005; Khawaja, 1993; Opp, 1994). ولأطمئن صديقي نفسه، تقول دراسة أخرى تغطّي بعداً آخر عن تأثير القمع على الجماهير، أن القمع بالطرق العنفية ضدّ الجماهير، قد يجعل ردّات الفعل العنيفة لجماهير تتراجع بسبب الخوف، ولكنها بشكلٍ موازٍ تشعل ردّات الفعل الاستراتيجية اللّاعنفية طويلة الأمد، أي أنها تحوّل عملية المقاومة من ردِّ فعلٍ إلى عملية تكتيكية محسوبة وهي الأخطر على السلطة بالمطلق. (Jasper, 2004; Meyer and Staggenborg, 2012). أما أهم ما قد وجدته فهو دراسة جميلة ل Jasper (2011)) تؤكّد علاقة ال U السابقة ولكنها تضيف بعداً آخر حيث فرّقت ما بين العواطف الانعكاسية وهي ردود فعل عابرة للأحداث الخارجية والمعلومات الجديدة" (مثل الغضب أو الخوف)، و بين المشاعر العاطفية، وهي "مشاعر مستقرة نسبياً، إيجابية أو سلبية، حول الآخرين أو حول الأشياء والأحزاب. إن المشاعر العاطفية المستقرة هي التي تؤدّي إلى العمل السياسي وهي ما يجعل القمع عديم الفائدة..!
يستخلص جاسبر في الدراسة نفسها "أقترح أنه من أجل فهم أفضل لكيفية استجابة الأفراد للقمع، ينبغي إيلاء المزيد من الاهتمام لنقاط الاختيار: ما هي الخيارات المتاحة للأفراد وكيفية حلّ المعضلات المضمنة في نقاط الاختيار هذه." إن التجويع الممنهج الذي يمارس علينا يجعل الموت السريع في العمل السياسي خياراً مقبولاً أو حتمياً للحقيقة..! وحتى لا أخصّص المقال بكامله لصديقي، أغطّي تأثير القمع على جهازنا العصبي. بحسب تجارب المعالج النفسي ميشال أندرسون، والتي تشمل التصوير الدماغي لاحتساب العلاقة ما بين قمع المشاعر السلبية وتجاهلها وزيادة نشاط الدماغ، تبيّن أن بعض أقسام الدماغ المتعلقة بالتحكّم التنفيذي، والواقعة في القشرة الدماغية الأمامية (Pre frontal Cortex) تحول دون وصول المعلومات المكبوتة كافة الى مراكز الذاكرة. أي لتبسيط النتيجة أن تجاهل وقمع المشاعر السلبية، ينهك دماغنا أكثر من عملية التفكير بها، ويضر بالتواصل العصبي وخاصة على فترات طويلة. إن أكثر المشاعر التي يقمعها الإنسان ك "عمل تعايش" هي مشاعر الغضب، الخوف، الخذلان، الإحباط والحزن، وهي تختصر بالمجمل مشاعر اللبنانيين حالياً.
بالمختصر، إن المشاعر هي طاقة، وإما أن نطلق هذه الطاقة (من إحباط وخوف وتوتر و.....) أو نقمعها عميقاً في دواخلنا دون وعي. كونها أعمق من قدرتنا على رؤيتها لا يعني عدم وجودها بل يعني أن نحملها بصمت لفترات طويلة تستنزف قدرة جسدنا بالكامل بشكل أو بآخر. إن النظام الأوتوماتيكي autopilot الذي نغرق به حالياً ليس إشارة قوة ونضال واستمرارية، بل هو إشارة من جسمنا أننا نستهلك نظام الحماية الأخير بسبب عدم قدرتنا على التحليل الواعي للمشاعر. أما التوتر anxiety فهو القطب الآخر للتعامل مع مشاعرنا المشحونة!
وختاماً، لن تنسينا هموم الحياة اليومية في هذه المدينة، من أزمات الكهرباء والماء وغلاء الأسعار الفاحش، جريمة ٤ آب النكراء. ربما "نقمع" عقلنا ومشاعرنا إذا تناسينا يوماً هذه المجزرة. يستحيل على هذه السلطة أن تكون قد قرأت شيئاً من علم النفس، أو علم الاجتماع، أو أقله علم الحيوان والا لكانت تعاملت معنا على أسس علمية غير اعتباطية بعكس ممارساتها الحالية المنبثقة من ثقافة القرون الوسطى.