انفجارُ الرّابعِ من آب ألْحقَ ضررًا باثنيْ وتسعين مدرسة رسميّة من ضمنها عشر مدارس أضرارها جسيمة وعشرين معهدًا للتّعليمِ المهنيّ والتّقنيّ. أمّا المدارس الخاصّة المتضرّرة فعددها سبع وتسعون من ضمنِها اثنتا عشر مدرسة أضرارها جسيمة. وقد توزّعت المدارس المتضرّرة في بيروت العاصمة وفي بيروت الكبرى، بالإضافة إلى محيط بيروت التّابع لمحافظة جبل لبنان التّي تصل إلى مناطق أنطلياس وجل الدّيب والزلقا وسنّ الفيل وغيرها.
أضرارٌ مُتفاوتة لحقت بالمدارس الرّسميّة خاصّةً في بيروت ومحيطها وهو ما ذكرته "يونيسف" في بيانٍ لها مُشيرةً إلى أنَّ هذه المدارس تضمُّ حوالي 55 ألف تلميذ، وهذا ما يجعل بعضها غير مؤهّل لاستقبال التّلاميذ في بداية العامّ الدّراسيّ قبل إعادة التّرميم والصّيانة.
المدارسُ الخاصّة ليست أفضل من نظيرتها الرّسميّة هي الّتي ترزحُ أصلًا تحت تحدّي تحصيل الأقساط الدّراسيّة (95% منها لم تُحصّلْ 60% من حقوقها في العامّ الدّراسيّ المنصرم)، ودفع رواتب المعلّمين وتناقص عدد التّلاميذ (خاصّةً مع تضخّم الأزمة الاقتصاديّة في الآونة الأخيرة).
إنَّ الوضع المُتردّي في قطاع التّعليم بعد الانفجار لا يقتصر فقط على مدارس لبنان الرّسميّة والخاصّة إنّما يطالُ أيضًا جامعاته. فالجامعةُ اللّبنانيّةُ تضرّرَتْ كثيرًا، إذْ طالَ الدّمارُ كلّ من مبنى العمادة لكليّة الآداب، والفرعيْن الأوّل والثّاني، ومركز علوم اللّغة والتّواصل ومركز التّرجمة واللّغات بالإضافة إلى تضرّر مباني كليّة الإعلام والعلوم الاقتصاديّة الإدارة المركزيّة، والمبنى الزّجاجيّ للإدارة المركزيّة للجامعة اللّبنانيّة في منطقة المتحف. والحالُ لا يختلفُ كثيرًا في مباني الجامعات الخاصّة، فالعديدُ من الجامعات الخاصّة في منطقة بيروت تعرّضت لأضرارٍ ماديّة كجامعة البلمند والجامعة اليسوعيّة والجامعة اللّبنانيّة الأميركيّة.
إذًا التّفجيرُ الكارثيّ الّذي وقع في الرّابع من آب زاد من أعباء المؤسّسات التّعليميّة وأضافَ أزمةً فوْقَ أزمةٍ خاصّةً عند تلك الّتي تحوّلت إلى مأوى، فعددُ التّلاميذ المتأثّرين بأضرار المؤسّسات التّعليميّة بلغ حوالي 63 ألف تلميذ عدا عن الوظائف المتأثّرة في القطاع التّربويّ، من أساتذة وإداريّين الّذي بلغ ما يقارب الـ 6 آلاف موظّف.
في سياقٍ مُتّصل أعلنت "الأونيسكو" أنّها ستعملُ على وضع خطّةٍ لتأمين الأموال بهدف إعادة بناء المدارس المتضرّرة وفق التّمويل المتوافر بعد تقييم الحاجات والكلفة المطلوبة بشكل دقيق. ولأنّ دورَ التّربيةِ فعّالٌ في نهوض بيروت فقد أعلنت أنّها ستُحفّزُ أسرةَ الأمم المتّحدة على المشاركة في دعم حالة الطوارئ من خلال التزامها ترميم 40 مدرسة متضرّرة.
فماذا عن إمكانيّة عودة التّلاميذ إلى المقاعد الدّراسيّة؟
ناقشت الوزارة أكثر من احتمال مع المنظّمة آخذةً بالاعتبار الحاجة إلى مقاربة تعليميّة دامجة لمرحلة ما بعد فيروس "كورونا". وقد أعلنت بدورها نيّتها دعم المقاربة الّتي سوف تختارها الوزارة. وزيرُ التّربية في حكومة تصريف الأعمار طارق المجذوب كان قد أكّدَ على الالتزام الانسانيّ بتقديم التّعليم إلى جميع الأولاد على الأراضي اللّبنانيّة سواء كانوا لبنانيّين أم غير لبنانيّين حفاظًا على حقّهم في التّعلّم. استئنافُ الدّروس هذه السّنة حضوريًّا أو عن بعد محفوفٌ بالتّحديّات الّتي يمكن أن تعرقلَ سيْرَ العام الدّراسيّ أو تحدّ من نجاحه. فالوضعُ الاقتصادي المُتردّي أرخى ثقلَه على كاهلِ الأهل الّذين لم تعدْ لديهم القدرة على تحمّل الأقساط الباهظة للمدارس الخاصّة مطلعَ هذا العامّ الدّراسيّ، وبالتّالي اضطرّوا إلى نقل أولادهم إلى المدارس الرّسميّة. في هذا السّياق تشير أرقام وزارة التّربية إلى أنّ حوالي 18500 انتقلوا من المدارس الخاصّة إلى المدارس الرّسميّة وهذه مشكلةٌ جديدةٌ أمام الوزارة المعنيّة الّتي عليها أن تتحرّكَ فوْرًا لخلْقِ شُعبٍ جديدةٍ لاستيعاب عدد التّلاميذ لئلّا تعتمد تكثيف عدد التّلاميذ في شُعَبِ الصّفوف، في الوقت الّذي أعلنَ فيه الوزير أنَّ التّعليم في المدارس الرّسميّة سينقسم إلى 80% حضوريًّا و20% عن بعد.
بعدَ مرور أكثر من شهرٍ على كارثة بيروت تبنَّت اليونيسكو تمويل وترميم وتأهيل كلّ المدارس والثّانويّات الرّسميّة المُتضرّرة بالإضافة إلى المباني التّابعة للجامعة اللّبنانيّة و20 مدرسة مهنيّة رسميّة. تداعياتُ العامّ الدّراسيّ المنصرم الّتي بدأت بثورة 17 تشرين وما رافقَها من تعطيلٍ، ومن ثمَّ جائحةُ كورونا، لم تنتهِ بعد عند كلٍّ من المؤسّسات التّعليميّة بطاقميْها الوظيفيّ والأكاديميّ، وعند الأهل والتّلاميذ (المنظومة التّربويّة). فالأزمات المتزامنة مع الوضع الاقتصاديّ المزري تجعلُ العودةَ إلى المدرسة مختلفة لأسبابٍ كثيرةٍ منها الكورونا الّتي خلقتْ اضطراباتٍ على صعيد الصّحّة وخوفًا من الضّغط النّفسي.
وزارة التّربيةِ والتّعليم أصدرت بيانًا غير واضح، إذ أوصت بالتّعليم المدمج مع الالتزام بالإجراءات الوقائيّة وبنسبةٍ أقصاها 50% من سِعَةِ الصّفوف في شكلٍ يُراعي التّباعد في المؤسّسات التّعليميّة ووسائل النّقل مع العلم أنّ العودةَ إلى المدارس محكومة بتأمين مستلزمات وسلوكيّات صحيّةٍ يجبُ مراعاتها من أجل الحفاظ على صحّة المُتعلّمين والمعلّمين والإداريّين وبالتّالي الأهل والمجتمع. السّؤالُ في هذا الإطار يطرح نفسه لكنَّ أحدًا لم يناقشْهُ على طاولة وزارة التّربية، إذا كان التّلميذ العاديُّ قادرًا على مراعاة والتزام الإجراءات الوقائيّة حفاظًا على صحّته أوّلاً وصحّة المعلّمين ثانيًا وإذا كان قادرًا على استيعاب الدروس واكتسابها عن بعد والاكتفاء بالتحصيل الاكاديميّ فقط، فهل التّلميذ ذوي الاحتياجات الخاصّة الموجود في الجمعيّات التّربويّة والمؤسّسات التّعليميّة قادرٌ على ذلك؟
في حديثٍ خاصٍّ مع ساندرا روحانا، المنسقّة التّربويّة والأكاديميّة في جمعيّة “step together” ، تؤكّد لنا أنّ الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصّة ليسوا الفئة المستفيدة كثيرًا في التّعليم عن بعد، ذلك أنّهم بحاجةٍ إلى أن يتّبعوا روتينًا واضحًا خاصّة أنَّ مفهومَ الزّمن غير واضح عندهم. من النّاحية الاجتماعيّة، هؤلاء الأشخاص عاشوا خبرات سابقة من نبْذٍ وتنمّر فوجودهم في المدرسة يكفلُ لهم الانتماء إلى جماعةٍ معيّنةٍ تتضمّن أشخاص متشابهين يستطيعون التّواصل معهم.
وتضيف روحانا قائلةً إنَّ العمليّة التّعليميّة لا تقتصر على المواد الاكاديميّة فهم بحاجةٍ إلى الوصول إلى اهدافٍ مختلفةٍ من النّاحية الاجتماعيّة، السّلوكيّة والحركيّة. والتّواصل غير المباشر معهم (عبر الشّاشة) يعيق العمليّة التّعليميّة خاصّة أنّ المربّين يعتمدون على الوسائل الحسّيّة والصّور الدّاعمة للوصول إلى الأهداف المطلوبة.
بالإضافة إلى أنّ هؤلاء التّلاميذ يحتاجون في أغلب الأحيان إلى المساعدة الجسديّة للقيام بالنّشاط المطلوب منه. فالشّاشة تشكّل حاجزًا بين التّلميذ والمعلّم وهذا ما يتطلّب وجود الاهل الّذين لا يملكون الكفايات اللازمة لدعم التّلميذ وهذا ما يولّد الضغط النّفسي لديهم وهم بدورهم بحاجةٍ إلى الإرشاد والتّوجيه. المعلّمون الّذين طالبوا بتصحيحِ الرّواتب بعد تدنّي قيمتها، يرافقهم أوّلًا قلقٌ على صحّتهم بعد بدء العام الدراسيّ، وثانيًا الأعباء المضاعفة حضوريًّا أو عن بعد بعدما تعوّدوا على طريقة التّدريس التّقليديّة.
على الرّغم من كلّ الصّعوبات الإصرار على بدء العامّ الدّراسيّ واضحٌ لكنَّ نجاحَهُ مكفولٌ إذا أُعيدَ النظّر إلى طريقة التّدريس وآليّاته أوّلًا، وإلى التّلميذ الّذي هو محور العمليّة التّعلّميّة ثانيًا.
في الشّقّ الأوّل، تأمين التّجهيزات الالكترونيّة وأجهزة الكمبيوتر للمدارس والتّلاميذ ضروريٌّ جدًّا في هذه المرحلة الاقتصاديّة الصّعبة، وقد أمّنَ مشروع "كتابي" أجهزة كمبيوتر محمول للصفّ مع تراخيص تشغيلها، وسوف يقوم المركز التّربويّ للبحوث والإنماء بتدريب أفراد الهيئة التّعليميّة على استخدام الأجهزة في الشّرح والإفهام والتّقييم ومتابعة المناهج المخفّفة. أمّا فيما يخصُّ المناهج التّربويّة فحدّث ولا حرج! فالوزارة المعنيّة تركت المناهج منذ 23 عامًا دون تطوير وتحديث أو حتى تقييم! وهي غير مؤهّلة اليوم لتتكيّف مع الوضع المستجدّ. كما إنَّ تقليصَ المناهج عملٌ صعبٌ يستلزم اجتماعات كثيرة للتربويّين والخبراء لربط الكفايات لدى المتعلّم وسدّ الفجوات التعليميّة.
في الشّقّ الثّاني، جميع التّلاميذ سيعودون إلى المدرسة خائفين من الضّغط النّفسي بسبب إغلاق المدارس لفترة طويلة والبقاء في البيت. هذا الواقع تختلف درجته من تلميذ إلى آخر إذْ ومن النّاحية الاجتماعيّة والنّفسية يصعب على التّلميذ المراهق تقبّل الواقع أكثر من التّلميذ الطّفل/الولد ذلك أنّ الاهتمامات تختلف من مرحلة عمريّة إلى أخرى بالإضافة إلى الآليّات الدّفاعيّة النّفسيّة. لذلك على المعلّم المربّي أن يدرس حاجيّات التّلاميذ الّتي إن لم تؤَمّنْ لهم يمكن أن تؤدّي إلى اضطرابات وضغوطات نفسيّة، لأنّ شخصيّة الأولاد بين عمر ال 3 و18 سنة تتأثّرُ بكلّ المؤثّرات الخارجيّة. لذلك النّشاطات الحسيّة الحركيّة الّتي ألغتها وزارة التّربية استثنائيًّا هذا العامّ تُعدّ من أهمّ الأمور الّتي يجب التّركيز عليها للتّخفيف من حالة الضّغط النّفسي عند التّلاميذ خاصّة الّذين عايشوا الانفجار بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
إذاً، استعرضنا في هذا المقال تحديات ثلاث ستؤثر حتماً على مسار العام الدراسي الحالي. جائحة كورونا وتداعياتها الصحية، الازمة الاقتصادية الآخذة بالتعمق أكثر، وانفجار المرفأ الذي ترك آثاراً مادية جسيمة ولكن يبقى الأخطر ذيوله النفسية على التلامذة. تحتاج هذه التحديات لحلول متكاملة يسهم في رسمها وتطبيقها جميع الأطراف المعنية بالعملية التربوية من الأهل إلى الهيئات التعليمية والجهات الحكومية وسائر الكادر الأكاديمي. أمّا وقد عاد التلامذة " إلكترونياً إلى الصف، يبقى السؤال الجوهري: كيف يمكن أن نكيّف التّعليم عن بعد مع الحاجات العاطفيّة والنفسية والاجتماعيّة للتلاميذ؟