هل يصلح القضاء اللبناني الراهن ما أفسدته جمهورية السرَّاقين؟

مخادعة في سرديات الأخبار 

في إعلام أطراف الممانعة اللبنانية تم تصوير مشهديات الكسر والخلع وشحن المستندات والحواسيب من شركة مكتف باعتبارها خطوة واعدة على طريق نضالية في مكافحة الفساد واسترداد أموال المواطنين والطريق لإنقاذ اللبنانيين من الانهيار السريع إلى "جهنم" الموعودة.

يعتمد المروجون لهذه المخادعة التضليلية، في احتفاليات البطولة القضائية، على حجب حقيقة طبيعة الاقتصاد اللبناني، وما أصاب هذا الاقتصاد الذي بُني وانهار على يد كل أطراف الطبقة "المتحالفة- المتخالفة" بلا استثناء، وبمعنى "كلن يعني كلن" فعلياً. كما يسوقون، وفق منطق هذا التضليل، لفكرة أن القضاء، إن هو استكمل مساره على منهج بطولة القضية غادة عون، في احتفالية شركة مكتف، سيعيد الحقوق لأصحابها، ويرسم طريق الخروج من السقوط الحر حتماً نحو "جهنم".

تقتضي منهجيتنا، في قراءة قيمة وفعالية هذه المسألة القضائية، الانطلاق من تحديد طبيعة الاقتصاد اللبناني وطبيعة الطبقة المسيطرة على هذا الاقتصاد وعلى السلطة السياسية في البلاد. ومن ثم السعي، في خطوة لاحقة، لتحديد الطرف المهيمن في هذه الطبقة المسيطرة، والذي يتحمل بالتالي مسؤولية الانهيار انطلاقاً من هيمنته، أي قيادته لمسار الاقتصاد والسياسة. وعلى ضوء ذلك يمكن الكلام عن الجهة المسؤولة عن الانهيار وعن كيفية محاسبتها. وما مدى الممكن أو الاستحالة في المحاسبة بآليات القضاء. أم أن المحاسبة تستلزم مساراً آخر، مسار الانتفاضة لإسقاط الطبقة المسيطرة وتغيير النظام السياسي جذرياً.

اقتصاد النهب و"جمهورية السرَّاقين" 

نحن نزعم أن الاقتصاد اللبناني هو اقتصاد النهب، هو اقتصاد السرقة. اقتصاد تقبض عليه وتديره سلطة سياسية بقيادة طبقة مسيطرة من الناهبين والسرَّاقين. تناولنا تكوّن اقتصاد النهب في مقالين سابقين لنا في مجلة النداء. ولن نكرر ذلك هنا، ولكننا سنشير إلى بعض الأمور. وعلى العموم، نحن نعتقد أن جمهورية الطائف هي نوع من دولة كليبتوقراطية، دولة النهب، أو السرقة والسرَّاقين، بدأت في التكون مع أمراء الحرب (قادة الميليشيات المافياوية) منذ الثمانينيات من القرن الماضي، واستكملت تكوينها مع بناء دولة اتفاق الطائف، منذ مطلع التسعينيات، إلى أن بلغت انهيارها الشامل في المرحلة الراهنة. 

في توصيفه لتتابع نماذج الاقتصاد اللبناني في تاريخه الحديث، يعتبر شربل نحاس أن المرحلة الرابعة والأخيرة هي مرحلة "اقتصاد قائم على النهب وإعادة التوزيع المقوننين (1985 حتى أمس)... وهذا هو النموذج الذي نشهد انهياره أمامنا اليوم"

ترسّخ هذا النمط الاقتصادي مع تطبيق مفاعيل اتفاق الطائف، وإدماج الميليشيات في السلطة. وفي الحقيقة لم تقم جمهورية الطائف في لحظة تأسيسها وإطلاقها بـ"ترويض" قادة الميليشيا المافياوية عبر إعادة تأهيلهم كرجال دولة وسياسيين. بل ما حصل هو العكس، إذ السمة المشتركة بين جميع أشكال الأنظمة الإدارية للميليشيات والطبيعة المفترسة لتصوّراتها وعملياتها الاقتصادية، هي التي سادت. وفي هذا رأت إليزابيت بيكار: "من الناحية الاقتصادية، كانت الظاهرة الأكثر إثارة للاهتمام والأكثر أهمية في أعقاب الحرب هي مشاركة رواد الأعمال ورجال الأعمال الذين أثروا أنفسهم بشكل غير قانوني من خلال ارتباطهم بالميليشيات... في مثل هذا النظام الفاسد، كان الوسيط الرئيسي بين رجل الأعمال الجديد ورجل الدولة هو رجل الميليشيا السابق الذي تحول إلى سياسي". ولكم يصح هنا كلام النائب جميل السيد، في تصريحه بتاريخ 13-10-2018: "معظم القيمين على البلد ميليشيات شلحوا الكاكي (لباس الميليشيا)، لبسوا كرافاتات، سمّوا حالهم رجال دولة...".

الفئة الرأسمالية المهيمنة اقتصادياً وسياسياً

سيطرت في هذا الاقتصاد شبكة متداخلة من المؤسسات المالية (المصارف) والاحتكارات التجارية والعقارية. بينما ضعفت للغاية الرأسمالية الصناعية، والاستثمارات الزراعية. ولم تتحكم بالبنية الاقتصادية رأسمالية مهيمنة لتقود الاقتصاد والسياسة العامة في البلاد. ومن أبرز الأدلة على ذلك اتّساع رقعة وانتشار رأسمالية الهولدنغ (الشركات القابضة) التي تدمج قطاعات الانتاج والاستثمار في شتى المجالات: المال والصناعة والتجارة والعقارات والأغذية والزراعة والبناء والسياحة والنقل والوكالات الأجنبية والاتصالات والخدمات، وتجعلها تحت إدارة واحدة. وفي هذا المجال يرى فواز طرابلسي: "يتراوح عدد شركات الهولدنغ المسجلة في لبنان بين ألفين وثلاثة آلاف شركة".

وبقي التحكم بالاقتصاد بيد السلطة السياسية (الميليشياوية سابقاً، المافيوزية)، التي لم تفوِّت وسيلة لجمع الثروة من التحايل على وظائف الدولة وخدماتها وتعظيم كلفتها لامتصاص المالية العامة، إلى الخصخصة في الكثير من أجهزتها: البريد والكهرباء والنقل والنظافة والمياه والصحة والتعليم... وكل ذلك غرضه الانتفاع من المال العام، ولوأنه يتأتى من القروض والهبات وديون الدولة عامة.

وإذا حاولنا تحديد الفئة الرأسمالية المهيمنة اقتصادياً لتحميلها مسؤولية الانهيار الاقتصادي، لما عثرنا عليها متركزة في أي قطاع من القطاعات الاقتصادية، كالرأسمالية المصرفية مثلاً أو الصناعية أو التجارية أو سوى ذلك. والأنشطة الرأسمالية متداخلة ببعضها، وغير مستقلة تماماً عن رجال السياسة والسلطة السياسية. فثمة تداخل أو تشابك واسع بين الرجل الاقتصادي والرجل السياسي. ما يعني أن الفئة الرأسمالية المهيمنة نجدها أساساً داخل الدولة بالذات وعلى رأسها، وهي تتحكم اقتصادياً وسياسياً. ولا معنى بتاتاً لمقولة "حزب المصرف"، سوى التغطية على مسؤوليات أطراف الطبقة المسيطرة.

من يتحمل مسؤولية الانهيار؟

من المنطقي على ضوء ما سبق القول: إنّ من يتحكم بالإدارة السياسية والاقتصادية في البلاد هو الذي يتحمل مسؤولية الانهيار. وعليه فأطراف الطبقة السياسية "المتحالفة- المتخالفة" والمسيطرة هي المسؤولة فعلياً عن التسبب بالانهيار. والانهيار هو النتيجة المنطقية لسياسات النهب المتنوّع للثروة العامة من قبل هذه الطبقة المسيطرة وبإشرافها المباشر. ولا قيمة لكل الكلام الذي يطلقه البعض حول التدقيق الجنائي في مصرف لبنان. فحاكم المصرف مهما علا شأنه هو مجرد موظف خاضع لقوانين الدولة ولرغبات الحكام. فكيف نقبل تحميل رياض سلامة مسؤولية الانهيار، بعد أن جدّدت له الطبقة المسيطرة بالإجماع بقاءه في وظيفته، وبعد أن قام مثلاً بكل الهندسات المالية لخدمة أطراف الطبقة المسيطرة؟

أما العمل على تجريم بعض الموظفين وبعض مؤسسات الصيرفة والمصارف، فهو في حقيقته مجرد بحث عن "كبش فداء". مع العلم أن هؤلاء الموظفين وتلك المؤسسات ليسوا بالضرورة على براءة مما يُنسب إليهم. ولكن مسؤوليتهم تابعة لخضوعهم إلى طبقة سياسية مهيمنة ومباركتها لسلوكهم. كما أن الاكتفاء بالاقتصاص منهم فحسب، يعني تبرئة الطبقة المسيطرة من جرائمها، ما لا يمنعها بالتالي من تكرار فسادها، ولا يسمح فضلاً عن ذلك باسترداد الثروة العامة والخاصة للمواطنين.

المحاسبة بالقضاء الراهن بين الإمكان والاستحالة

بدايةً علينا التركيز على أن الجسم القضائي والقانون مثل كل أجهزة الدولة الإدارية والأمنية والسياسية. فهما دوماً في خدمة الطبقة المسيطرة والحاكمة. ولما كانت أطراف الطبقة المسيطرة في لبنان "متحالفة- متخالفة" (تبعاً لتوافقها في المحاصصة والنهب واختلافها في ذلك)، فإن الجسم القضائي هو أيضاً "متشارك ومتفارق" أيضاً على صورة الطبقة المسيطرة والحاكمة التي يعمل الجسم القضائي (كباقي أجهزة الدولة) في خدمتها بكل أمانة وطاعة. وهذا ما يجعل القاضية غادة عون نموذج أصلي (بل أصيل) prototype للقاضي اللبناني: إنه في خدمة طرف الطبقة المسيطرة الذي عينه في منصبه، ليكون ضد الطرف الآخر. ومن هنا حتمية فساد القضاء اللبناني، والعجز المتكرر عن البت في أي قضية جدية تكون مدار خلاف بين أطراف الطبقة المسيطرة. وعليه ثمة استحالة بتحصيل الحق العام من خلال اللجوء إلى هذا القضاء التابع للطبقة المسيطرة والعامل في خدمتها. 

ما الموقف المطلوب؟

إنّ مجريات المشهدية القضائية دليل من الدلائل الكثيرة على أن البناء الفوقي في لبنان متصدّع وغير صالح، وأن النظام السياسي بكامله في أزمة عميقة. وهي علامة على عجز الطبقة المسيطرة عن التفاهم على إدارة البلاد. وهذا ما يجب أن يدفع بالشيوعيين إلى اعتبار قضية القاضية غادة عون مؤشراً على فضيحة قضائية مجلجلة، وبالتالي أن يتخذوا منها مادة رفيعة للتشهير السياسي، بالنظام القضائي، وبالنظام السياسي وبأجهزته بمجموعها، وبأطراف الطبقة المسيطرة "المتحالفة- المتخالفة".

 

ولذلك نرى من الضروري أن تشكل هذه المسألة (وكل مسألة أخرى تشبهها في الجوهر)، مادة للتشهير السياسي الطبقي، مادة ملموسة وراهنة، وصورة حية وموضوعاً يتناوله جميع الناس... علماً بأن التشهير السياسي بالنظام وبشتى أطراف الطبقة المسيطرة هو نشاط نضالي على أهمية فائقة للشيوعيين ودورهم في التعبئة، وفي المرحلة الراهنة على وجه الخصوص. إن هذا التشهير ضروري ضرورة بالغة من أجل إنماء وعي العمال وشتى الفئات الكادحة من البرجوازية الصغيرة والوسطى المنهارة إلى صفوف أشباه البروليتاريا، والفلاحين المتوسطين والصغار والبروليتاريا الفلاحية.

وفي الخلاصة نقول: إنّ القضاء الراهن ليس ملاذاً ولا رجاء منه لتحسين أوضاع المواطنين عموماً. ولا بد من اعتماد الانتفاضة سبيلاً لتصحيح الواقع. فهذا النظام أثبت عجزه الفعلي عن خدمة الشعب اللبناني، وبرهن على فساده المطلق، وعل استعصائه على الإصلاح بالقضاء أو بغيره. ولا بد بالتالي من اسقاطه وإقامة نظام وطني ديمقراطي على إنقاضه. 

والسبيل إلى ذلك العمل الجاد والدؤوب والصبور لبناء الكتلة الشعبية الوازنة القادرة على إنجاز الثورة الشعبية المطلوبة.

المراجع:

  الأول: "لبنان إلى الجحيم بين صراع الطبقة المسيطرة على السلطة والصراع الإقليمي والتبعية للامبريالة"، 25-12-2020. الثاني: "الخروج من الأزمة بإسقاط الطبقة المسيطرة بكلّ الوسائل الثورية المشروعة"، 26-3- 2021.

  يعني مصطلح كليبتوقراطية kleptocratie نظاماً سياسياً يتصف بأن الأسلوب العام لإنتاج الثروة وتوزيعها يقوم على سرقة أو نهب الثروة العامة، بطرق وأساليب متنوعة، وبتغطية "قانونية" أو بدونها، ما يكوِّن دولة السرّاقين، أو حكم اللصوص. ومن ذلك الكلام على رأسمالية السرقة أو النهب Capitalisme kleptocrate، واقتصاد السرقة أو النهب.

  شربل نحاس، اقتصاد ودولة للبنان، رياض الريس للكتب والنشر، ط 1، تموز 2020. ص 12، وص 87.

Elizabeth PICARD, Prospects for Lebanon. The Demobilization of the Lebanese Militias, Centre for Lebanese Studies, Oxford. P. 37-38

  فواز طرابلسي، الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان، دار الساقي، بيروت، ط. 1، ص 205.