في الذكرى الأولى لانتفاضة الخريف


ليست إلّا انتفاضة الخريف. قبل أن تمتلئ الساحة بالمنتفضين، كان هناك من يزرع الشارع بصيحاته منذ زمن طويل. تطلّ الذكرى السنوية الأولى لانتفاضة الناس التائهة والباحثة عن وطن لها بعدما أمعنت الدولة بحكّامها وموظّفيها وأحزابها وطوائفها سرقةً ونهباً وخيانةً لخيرات البلاد. لم تنجح الانتفاضة في تغيير السلطة إنمّا نجحت بتلوين وإضفاء مسحة جمالية لوعي الناس الحالمين بدولة تليق باللبنانيين.

أخطأ المنتفضون الناضجون ثورياً كاليساريين عندما لم يقتحموا تلفزيون لبنان وإذاعة لبنان ليعلنوا قيامة حكومة ثورية مؤقتة ببرنامج إنقاذي جاهز، يبدأ أولاً بحلّ مجلس النواب وإعطاء الأوامر للجيش بإلقاء القبض على كلّ الرؤساء والوزراء والمدراء العامّين والمصرفيين الحاليين والسابقين وإحالتهم للجان قضائية وطنية ذي ثقة لمحاكمتهم فوراً بأول سؤال "من اين لك هذا؟"

ليس بالضرورة أن تنجح المحاولة بغطاء جماهيري واسع في الشوارع يعتمل بالحماسة المفرطة لأيّ قرارٍ عقابي وتأديبي لكلّ السلطة الحاكمة بما فيها سلطة حكم رجال الدين. ربما لكانت فشلت المحاولة وهذا احتمال كبير إنما كانت المحاولة الثانية والثالثة أسهل للتنفيذ وللنجاح لأن المحاولة كادت عندها أن تكسر حاجز خوف الناس من الشبيحة ومن جيش الميليشيا المنتشر بين الموظّفين والعسكر والقضاة والأمنيين وأجهزة الرقابة الذين لو قاموا بعملهم كما تنصّ عليه القوانين، لما وصلت البلاد الى هذا المستوى الحقير من النذالة الإنسانية.

خدعت الأحزاب الحاكمة الناس عندما وعدتهم بإصلاحات شاملة ما كانت إلّا وعوداً كاذبة للجماهير. خطأ انتفاضة الخريف الأولى لن يتكرّر في الثانية وربما في الثالثة، يكفي المنتفضين شرفاً أنهم تجمهروا وصاحوا وهتفوا وشتموا واتهموا كلّ الطبقة السياسية - الاقتصادية - المالية. يكفي انتفاضة الخريف شرفاً انطلاقة المقاومة الوطنية اللبنانية لخونة الاقتصاد) مولخا (الافتراضية في عالم الأدمغة الالكترونية من دون انتساب ومن دون توقيع لتهزّ المصارف وأصحاب المصارف ولتهدّد الدولة المالية العميقة من دون ترك عنوان يدلّ عليها.

العمل الثوري الناجح هو ذاك العمل الذي يبدأ ويستمر في السرية. لا يكفي بأن تصيح سقط حكم المصرف لتهزم الدولة المالية العميقة. صحيح أنّ غياب القائد لانتفاضة الخريف جعل من مطالب الناس مختلفة التوجّه وعشوائية إلاّ أن لغياب القائد أيضاً مفاعيل إيجابية إذ جعلت من كلّ منتفضٍ قائداً ومراسلاُ وإعلامياً ومناضلاً ومغيّراً للتاريخ. ما كانت انتفاضة الخريف الأولى إلّا التقاء لخطّ القهر بخط الفقر بخط الحماسة الوطنية بخط ازدراء الطائفية والطائفيين بخط مواجهة قذارة الرأسمالية بخط يأس الناس من الأحزاب الحاكمة بخط المستحيل. انتفاضة الخريف الأولى ليست إلّا رياضة تأمّلية جماعية لمنتفضين سيعودون لاحقاً بنضج وبتدريب وبخطط مواجهة ذكية لاستلام السلطة من ناهبي الأموال العامة. أخطأ المنتفضون في إغلاق الطرق. كان على السيارات أن تسير ببطءٍ على الطرقات لتشلّ البلاد قاطبة من دون مخالفة القوانين العامة.

إلى جانب القبضة، كان يجب رفعَ مجسّمٍ لمقصلة لقطع الرؤوس المسؤولة عن الفساد الممنهج والديون المخطط لها على الطريقة الغورباتشوفية في الإدارة. البعد النفسي لانتفاضة الخريف ترك آثاراً عميقةً في الذاكرة اللبنانية إذ إنها ركيزة وقاعدة لأيّ حلمٍ في التغيير. صحيح أنّ الطبقة الوسطى المترنحة نزولاً ممثلةٌ بالتلامذة وبالطلاب وبالوطنيين وبالمواطنين المقهورين هي من قامت بالانتفاضة، ولكن على أمل أن يلتحق بها الفقراء الذين لم يأتوا لانهماكهم بسبل العيش اليومي من ناحية، ومن ناحية أخرى كونهم أسرى قيود حرّاس الجنّة والنّار وحماة الهلال والصليب. كاد أن ينجح هربرت ماركيوز في بيروت برهانه على الحركة الطلابية كمحرّك للمجتمع الثوري.

خان الفقراء الانتفاضة لا بل ناصروا جلّاديهم على محرّريهم، إنّما هم اليوم يبحثون بأسف وبتحسّر وبندم عن الذين نبّهوا من الآتي المريب ليلتحقوا بهم. لا نجاحَ لأيِّ انتفاضة خريف أخرى من دون حكومة ثورية لفوارس ملثّمين وشجعان، أسماؤهم بأسماء الجبال والأنهار والأشجار.