نحن نقول لا

تعريب وإعداد: محمد وليد قرين

لقد جئنا من بلدان مختلفة، ونحن هنا، مجتمعون في الظلّ الكريم لـبابلو نيرودا: نحن هنا لمرافقة الشعب التشيلي، الذي يقول لا. نحن كذلك نقول لا.

نحن نقول لا لمدح المال والموت. نقول لا لمنظومة تضع ثمناً على الأشياء وعلى الأشخاص، حيث الذي يملك مالاً أكثر هو الذي يساوي أكثر، ونقول لا لعالم يخصّص مليوني دولار في كلّ دقيقة لصناعة الأسلحة الحربية بينما يقتل في كلّ دقيقة ثلاثين طفلاً بسبب الجوع أو مرض يمكن الشفاء منه. تمثّل القنبلة النيوترونية، التي تنقذ الأشياء وتمحو الناس، رمزاً مثالياً لعصرنا. بالنسبة للمنظومة المجرمة، التي تحوّل نجوم الليل إلى أهدافٍ عسكرية، ليس الإنسان سوى عنصرَ إنتاجٍ واستهلاكٍ وشيئاً مستعملاً؛ وتعتبر هذه المنظومة الوقت مورداً اقتصادياً ليس إلّا؛ وكوكب الأرض بأسره مصدر ربح يجب أن يعطي حتى آخر قطرة من عصيره. يتضاعف الفقر لكي تتضاعف الثروة، وتتضاعف الأسلحة التي تحمي هذه الثروة، ثروة أقليّة قليلة، وخلال ذلك تتضاعف الوحدة: نحن نقول لا لمنظومة لا تمنح الطعام ولا تمنح الحب، منظومة تحكم على العديد من الناس بالجوع وتحكم على عدد أكبر من الناس بالجوع إلى العناق.


نقول لا للكذب. تدعونا الثقافة المسيطرة، التي تبثّها وسائل الإعلام الكبرى على مستوى عالمي، إلى الخلط بين العالم وسوبرماركت أو ميدان السباق، حيث يمكن أنْ يكون القريب سلعةً أو منافساً لنا، ولكن حيث لا يمكنه أبداً أن يكون أخاً لنا. هذه الثقافة الكاذبة، التي تضارب بالحب الإنساني لتقتلع منه فائض القيمة، هي في الواقع ثقافة الانسحاب: هي ثقافة تعبد الرابحين، أصحابَ المال والسلطة الناجحين. وأبطالُ هذه الثقافة هم أمثال الرامبو الذين يحمونها مطبّقين مذهب الأمن القومي. الثقافة المسيطرة تكذب لما تقول إنّ فقر الفقراء ليس نتيجة ثروة الأثرياء، وإنّما الفقر لم يولده أحدٌ إذ هو خرج من أذن معزة أو هو صادرٌ عن مشيئة الرب التي جعلت الفقراء كسالى وحميراً. وبنفس الشكل لا يجب أن تُسبّب إهانة أناس من قبل أناس آخرين الغضب التضامني أو أن تثير الصدمة، لأن الإهانة تنتمي إلى نظام الأشياء الطبيعي: الديكتاتوريات الأميركية اللاتينية هي جزء من طبيعتنا الفائضة وليست جزءاً من المنظومة الإمبريالية للسلطة.
الاحتقار يخون التاريخ ويبتر العالم. ويعاملنا صانعو الرأي الأقوياء، كما لو أنّنا غير موجودين، أو كما لو أنّنا ظلالٌ غبية. يجبر الإرث الكولونيالي ما يُسمّى العالم الثالث، الذي يسكنه أناس من الدرجة الثالثة، إلى أن يتقبّل ذاكرة المتغلّبين عليه، كما لو أنّها ذاكرته الشخصية وأن يشتري الكذب الخارجي ليستعمله، كما لو أنّ هذا الكذب هو حقيقته الخاصة. يكافئوننا على الطاعة ويعاقبوننا على الذكاء وينزعون منّا الطاقة الخلّاقة. يتم فرضُ رأيٍ علينا، ولكن لا يمكننا أن نكون صانعي الرأي. لدينا الحقّ في الصدى، لا في الصوت، والحكام يمدحون موهبتنا كببغاوات. نحن نقول لا: نرفض تقبّل هذه الرداءة كقدرٍ لنا.


نحن نقول لا للخوف. لا للخوف من التكلم، للخوف من الفعل، للخوف من الوجود. الاستعمار الظاهر يمنع القول والفعل والوجود. ويقنعنا الاستعمار الخفي، أكثر نجاعة، أنّ القول والفعل والوجود أمورٌ مستحيلة. يتنكّر الخوف بالواقعية: يجب أن تكونَ الأخلاق لا أخلاقية حتّى لا يصبح الواقع لا واقعياً، هذا ما يقوله لنا أيديولوجيّو العجز. لا يسعنا إلّا الخضوع للقدر أمام المذلّة، أمام البؤس، وأمام الكذب. القدر يحكِم علينا فنولد كسالى، لا مسؤولين.. عنيفين.. أغبياء.. غريبي الأطوار.. ومحكومةٌ علينا الوصاية العسكرية. على الأكثر، يمكننا أن نسعى إلى أن نصبح سجناء لحسن السلوك، قادرين على دفع ثمن فوائد ديون خارجية ضخمة تُطلب منا لتمويل الترف الذي يهيننا والهراوة التي تضربنا.


وفي هذا الإطار، نحن نقول لا لحياد كلمة الإنسان. نقول لا لأولئك الذين يدعونَنا لغضِّ البصر عن المآسي اليومية التي تحدث من حولنا. نفضّل فنّاً حارّاً يحتفي بمغامرة الإنسان في العالم ويشارك فيها، نفضل فنّاً مغرماً ومكافحاً على الانبهار المملّ بفن بارد لا يبالي ويتأمل المرآة. هل الجمال كان ليكون جميلاً لو لم يكن عادلاً؟ هل العدالة كانت لتكون عادلة لو لم تكن جميلة؟ نحن نقول لا للطلاق بين الجمال والعدالة، لأننا نقول نعم لعناقهما القوي والخصب.


يجب أن نقول نحن لا، وبقولنا لا نقول نعم.

بقولنا لا للديكتاتوريات، ولا للديكتاتوريات اللابسة قناع الديمقراطيات، نحن نقول نعم للنضال من أجل الديمقراطية الحقة، التي لن تحرم أحداً من قوته ومن التعبير عن رأيه، ديمقراطية ستكون جميلة وخطيرة مثل قصيدة لـنيرودا أو أغنية لـبيوليتا (Violeta).
بقولنا لا لإمبراطورية الجشع المدمّرة، التي يقع مركزها في شمال أميركا، نحن نقول نعم لإمكانية وجود أميركا أخرى، التي ستولد من أقدم التقاليد الأميركية ألا وهي التقاليد المجتمعية، التقاليد المجتمعية التي يدافع عنها بيأس هنود التشيلي منذ خمسة قرون، من هزيمة إلى هزيمة أخرى.
بقولنا لا للسلم من دون كرامة، نحن نقول نعم للحق المقدّس في الانتفاضة على الظلم وتاريخه الطويل. طويلٌ مثل تاريخ المقاومة الشعبية على خريطة التشيلي الطويلة.
بقولنا لا لحرية المال، نحن نقول نعم لحرية الأشخاص: حرية معنّفة ومتضرّرة، سقطت ألف مرة، مثل التشيلي، ومثل التشيلي نهضت ألف مرة.
بقولنا لا لأنانية الأقوياء الانتحارية، الذين حوّلوا العالم إلى ثكنة واسعة، نحن نقول نعم للتضامن الإنساني الذي يمنحنا حسّاً كونيّاً ويؤكّد قوّة الأخوة التي هي أقوى من كلّ الحدود وحرّاسها، هذه القوّة التي تستحوذ علينا، مثل الموسيقى التشيلية، والتي تعانقنا مثل النبيذ التشيلي.
بقولنا لا للجاذبية الحزينة لخيبة الأمل، نحن نقول نعم للأمل، الأمل الجائع والمجنون والمحب والمحبوب، مثل التشيلي: الأمل المتعنّت مثل أبناء التشيلي الذين يشقّون الليل.

* هذه الترجمة الأولى لنص بعنوان «Nosotros decimos No» باللغة الاسبانية للكاتب والصحافي الأوروغوايي الراحل إدواردو غاليانو (Eduardo Galeano، 1940-2015) وهو قامة من قامات الأدب والفكر اليسارية في أمريكا الجنوبية. ألقى نصه هذا كخطاب عام 1988 بمناسبة سنة الاستفتاء في التشيلي تحت حكم الرئيس بينوشيه، الطاغية وعميل الامبريالية الأمريكية. ترجمه إلى العربية محمد وليد قرين (كاتب قصص جزائري وأستاذ في الترجمة بجامعة الجزائر) لمجلّة «النداء».

 

 

# موسومة تحت :
  • العدد رقم: 363
`


إدواردو غاليانو