المعرفة البديلة: المساحات العامة مطلب أساسي

يقدّم النظام المهيمن المعرفة بشكل ومضمون محدّدين: هي أداة جامدة تنتجها النخبة المثقفة بمضمون يكون بالضرورة لمصلحة الطبقة المهيمنة. لكن هناك ما تغيّر ولو بشكل أوليّ، منذ السابع عشر من تشرين الأوّل، خاصة على مستوى مساءلة طبيعة المعرفة التي تقدّمها الأوليغارشيا، والبحث عن معرفة بديلة.

وقد حملت هذه الانتفاضة تساؤلات جديدة كان قد أسكتها النظام المهيمن في لبنان، ومن ضمنها، الشكل الوحيد المطروح للتخطيط المديني في لبنان، أي غياب تحديد دور الدولة في تنظيم السوق الحرة لخدمة الأوليغارشيا. حملت هذه الانتفاضة إذاً مساءلة للأشكال المهيمنة لإنتاج المعرفة ونتيجتها على وعينا.

فتحت الأيام السبعون ونيّف الماضية فرصَ نقاش مواضيع عديدة، كانت في ما مضى آخر اهتمامات الناس، أو لنقل، لم تكن أصلاً على لائحة الاهتمامات. فجأة، ظهر جوع غريب وكاسح تجاه كل أشكال المعرفة. نريد أن نعرف عن الاقتصاد، والسياسة، والقانون، نريد أن نعرف ماذا يجري على مستوى البيئة، والطبابة والنقل العام والصحة النفسية والفكر النسوي والإعلام والفنون والتخطيط: الشعب يريد المعرفة. ولا تأتي هذه الحاجة من فراغ، بل من سيطرة كاملة وكامنة للنظام الرأسمالي على كل أشكال إنتاج المعرفة في المنطقة، من التربية حتى الإعلام مروراً بالنقاشات في اللقاءات الاجتماعية.

وفيما كانت مصادر المعرفة ترزح تحت هيمنة الأوليغارشيا، قدّمت هذه المصادر ولسنين طويلة وصفات إسكات الشعب وتخديره، من اتّهام الطوائف لبعضها البعض، واتّهام اللاجئات واللاجئين، أو من إسكات الناس بالقول بأن الوضع الاقتصادي ممتاز والفقير "فقير من إيدو". كما قدّمت أيضاً برامج تعمل على قتل الإبداع، من إنتاج درامي مسطّح لا يتعاطى بأي شكل من الأشكال مع حقيقة الحياة في لبنان والمنطقة من جهة، وأبدعت أيضاً بتحويل أزمة رأس المال إلى برامج تسمّيها "اجتماعية" تُظهر في أساسها مفهوم الاستعطاء والعمل الخيري الذي يسوّق للشفقة على المهمّشين/ـات ويعتبر الفقر مسؤولية الفرد لا النظام والمجتمع، ضمن رسالة سياسية قائلة "هناك فقراء تعساء، بإمكاننا استغلالهم لزيادة عدد المشاهدين وشحذ العواطف".

لسنين إذاً، وجد الفرد نفسه/ـا في لبنان، أمام إنتاج معرفي واحد. وقد أثّر هذا الشكل من المعرفة المهيمنة، إلى اغتراب الأفراد عن "ميزاتهم" أي ما يسمّيه ماركس اغتراب عن جوهر الأنواع، جوهر كونهم بشراً، من حيث فقدان قدرتهم على تغيير وتشكيل ما حولهم، قدرتهم على البقاء بشر. فما يصنعونه وما يجبرون على التفكير به وقوله، لا علاقة له باهتماماتهم أو بمصلحتهم، لأن المعرفة التي يستطيعون الاحتكاك بها، تُنتَج لخدمة مصلحة الطبقة المهيمنة والمحافظة على موقعها السياسي. هو إذاً استلاب بين أفراد الطبقة العاملة بعضهم البعض، لأنه يضع هؤلاء المهمشات والمهمشين في مواجهة بعضهم البعض.

ولأن الانتفاضة جاءت لتخلق بتراً مع هذا الاستلاب، خرج الناس إلى الشوارع للرفض، وكانت المعرفة البديلة، المعرفة المنحازة لهم هي أحد أشكال هذا الرفض. جاءت أولاً بمساحات نقاش غير نخبوية – مقارنة مع الأشكال الكلاسيكية، من شاشة تلفزيون أو قاعة محاضرات، مع ما يحمله هذان الشكلان من علاقة فوقية مع المتلقي/ـة: أصبح الشارع، باعتباره مكاناً ملموساً، مكانَ النقاش، أي مصدر الإنتاج المعرفي. وفي هذا المكان بالذات مساحة كبيرة للشكل الديمقراطي من إنتاج المعرفة. فالمثقف/ـة بشكله الكلاسيكي لم يعد هو مصدر المعرفة، إنّما الشعب. إذاً فتح الشارع بخاصيته، باعتباره مكاناً عاماً، المجالَ للشعب بأن يدخل في لجة النقاش السياسي الاقتصادي العلمي الهندسي الطبي البيئي وغيره، ويكون جزءاً منه، لا متلقّياً فقط.

هكذا، أصبحت اليوم أساسية للنقاش، مواضيع كانت في الماضي غير مطروحة أصلاً، وكان أحدها موضوع التخطيط المديني وإدارة الأراضي والمنشآت. لماذا نعيش كما نعيش؟ أين هي الدولة من تخطيط الأراضي، وما هي حقوقنا؟ أسئلة نبشها الشعب من تحت تلال المواضيع التي حاولت الأوليغارشيا استخدامها للتعمية عن أهمية التخطيط. اليوم، تتمظهر إدارة الدولة للأراضي بشكل وحيد: تنظيم السوق الحرة لمصلحة الأوليغارشيا، إنْ كان عبر اعتبار البنى التحتية مصادر شرعية للربح، أو عبر اعتبار الأراضي سلعاً في السوق العقاري. في المقابل، طرح الشعب في نقاشاته في بيروت والمناطق عبر موضوع التخطيط، أسئلة عن علاقته بالدولة، فاكتشف بأنّ حقوقه أكثر بكثير ممّا رضي به لسنين طويلة مضت، وبأنّ أحد أكبر همومه اليوم، تأمين المسكن الآمن في ظلّ ارتفاع أسعار الإيجارات واضطراره للابتعاد عن قراه، وأنّ الظلم الذي يلحق بالقرى هو ظلم ممأسس تمارسه السلطة تجاه الطبقة العاملة في لبنان. نتيجة لذلك، تمّ في مناطق عديدة طرح تأثير الملكية الخاصة في تهميش حقوق الجماعة ككل، في تغيير غير متوقّع للأحداث (plot twist) بحيث كان المتوقع دائماً أن تساهم سنين التكييف المعتمد على المعرفة الرأسمالية بتقديس هذه الملكية ومنع أي نقاش حولها، فعمل نقاش موضوع التخطيط المديني إذ ذاك كخطوة تحرّرية من هيمنة المعرفة الرأسمالية.

نفهم إذاً تهافت الناس خلال هذه الانتفاضة، على مواضيع كانت لتبدو أقلّ أهمية من الصراع اليومي من أجل القوت. لأنّ الجوع الذي أظهرته الانتفاضة، هو جوع سببه أيضاً غياب الإجابات: لماذا نحن فقراء؟ تقولون أننا منهوبون، من سرقنا وكيف ولماذا؟ جوع يفصل، شيئاً فشيئاً، بين السائل والمجيب الكلاسيكي المعتمد بشكل ببغائي بماورائيات الأديان الإبراهيمية، أو بالمغالطات السياسية الطبقية. لقد حرّكت الانتفاضة الركود المعرفي الموجود، فأصبح الشعب اليوم يطرح أسئلة جديدة ويطلب إجابات اعتاد الرفيق ماركس على الإجابة عنها.