تمشي ببطء وتعب. يجرّها ابنها من يد، بينما تحمل علماً في اليد الأخرى. أتخيّل ما يمكن أن تكون قصّتها، امرأة تمشي في مظاهرة نسوية، وحيدة لا تعرف أحداً منهنّ. أمُطلّقة هي ويحاربها زوجها والمؤسسة الدينية بكل عتادها ليأخذ ابنها منها؟ أم هي تريد الطلاق ولا تستطيع طلبه لأن أهلها يرفضون استقبالها في بيتهم إن أصبحت مطلّقة، وهي لا تملك مالاً لتستأجر بيتاً لأنه لم يسمح لها بالعمل منذ زواجهما؟ أم أنّه يهينها ويضربها ويهدّدها بالزواج عليها كلَّ صباح؟ أم أنها فقط لا تريد البقاء معه، ولا تعرف كيف تهرب بابنها دون أن تخسر حياتها ثمناً لذلك؟ غيرها كثيرات في هذه الانتفاضة، نساء تحاربن وحوشاً ليس بالمُستطاع حتى تخيّلها.
نمشي في المظاهرة النسوية، واحدة من العديدات اللاتي تغطّي شوارع المناطق خلال هذه الانتفاضة، وكلّ منّا تحمل قصصاً لا تنتهي من الاستغلال والقهر. فهذه الانتفاضة تربط وبشكل واقعي وراديكالي في الوقت عينه، القصص الكثيرة التي تحدث لنا تحت نظام رأسمالي قاهر، ليكون اليومي والشخصي والسياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والفني والعلمي حلقات مترابطة من المنظومة الاستغلالية ذاتها. ما يحصل اليوم في الانتفاضة هو تظهير واقع النساء، أي تظهير القمع الذكوري من جهة، وتظهير ما تقوم به النساء كل يوم من عمل سياسي. وبما أن النسوي سياسي بامتياز، فإن عمل النساء في الانتفاضة لا ينفكّ يقويّ الخطاب القائل بأن قمع النساء هو جزء من النظام الرأسمالي.
في إطار تشكّل الوعي النسوي عند الفئات الأوسع من النساء في بيروت والمناطق، نجد أيضاً تحرّراً من منطق الجمعيات غير الحكومية ومفاهيمها للعمل النسوي ولأسباب الاستغلال. فبينما تُرفع اليوم الشعارات النسوية رافضة النظام الذكوري الأبوي، رابطة الاستغلال الرأسمالي باستغلال النساء واللاجئين والعمّال (ومن بينهم العمّال غير الشرعيين)، يصبح السقف أعلى ممّا يمكن لهذه الجمعيات تحمّله. فالخطاب السياسي الاقتصادي التقاطعي يطرح ما لا تريده هذه المؤسسات، يطرح صلة واضحة بين حالات النساء الفردية وممارسات النظام غير الفردية. أي أن الخطاب النسوي الحالي يُخرج معاناة النساء (في ظل النظام الرأسمالي والذكوري الأبوي) من خانة المشاكل العائلية أو سوء المعاملة بسبب سوء الأحوال (وهي حجج واهية) إلى حالة النهج الذكوري الأبوي: من الفردي الذي يجدر السكوت عنه و"تكبير العقل" لكي لا تزيد المشاكل والتحمّل لأن هذا هو "دور النساء"، إلى المنظومة الاستغلالية المتكاملة التي تعتبر النساء مخلوقات من مستوى أدنى.
وإذ نعتبر أن الانتفاضة ليست نشاطاً سياسياً في الشارع فحسب، بل لحظة وعي أو إمكانية وعي، نعي بأن العمل النسوي الحاصل اليوم هو أيضاً لحظة بلورة الفكر في الشارع وبين النساء، ولحظة تشذيب الرؤيا ودفعها خارج الأطر التي وضعها النظام لها. فمن داخل منظومة الهيمنة، وُجِد خطاب يحمل ظاهراً داعماً للنساء بينما هو في باطنه يهمّشهنّ ويعيدهنّ إلى صفوف المتلقيات والتابعات. ويعمل هذا الخطاب عبر استخدام الخدمات كوسيلة أساسية للعمل النسوي، وعبر فصل النسوي عن السياسي ضارباً بعرض الحائط كل أعمال النسويات اللواتي أظهرن الارتباط العضوي للمفهومين، كما يجعل من النسويات ناشطات - موظّفات فيختصر عملّهن السياسي بوظيفة مكتبية خدماتية أو يحوّل عملهنّ السياسي إلى عمل مدفوع الأجر. ما يجري اليوم في بيروت والمناطق، هو خروج النساء عن سيطرة هذا الخطاب، رافضات في الوقت عينه الخطاب الفوقي التلقيني للجمعيات هذه، والذي يعتبر بأن نساء المدن مثلاً أكثر وعياً من نساء القرى والمناطق، وأن المتعلّمات أكثر وعياً من غير المتعلّمات وأن الوعي النسوي ملك خاص لـ"أنتلجنسيا" استطاعت أن تحصل عليه بسبب علاقتها بمؤسسات تربوية أجنبية أو عبر تدريبات على النوع الاجتماعي تبعتها ورش عمل في فندق ما. الوعي ليس ملكاً خاصاً لأحد، وهو بالتأكيد ليس ملكاً خاصاً للطبقة المهيمنة، هذا ما تثبته النساء كل يوم في عملهن السياسي.
الانتفاضة، في أساسها ليست فقط رفض للنظام الحالي بشكله الواضح، وإنّما هي أيضاً رفض لتجليّاته المنمّقة وأشكاله الكامنة المختبئة في أثواب متنوّعة: هي رفض للوعي الزائف والثورة المضادة المتخفّية بإعادة تدوير الخطاب المهيمن. تنتصر هذه الانتفاضة كل يوم للجماعات المهمّشة والطبقة العاملة في لبنان، مظّهرة الصراع الطبقي أكثر فأكثر، رابطة كل الأزمات التي تواجهنا ببعضها البعض. وفي قلب هذه الانتفاضة، تكون النساء، تدفعن نحو الواجهة بالقضايا التي كانت تعتبر ثانوية، لتكون الصورة أوضح وأعمق، لماهية قسوة هذا النظام ولكيفية مقاومته.