واليوم يعاني أهل الجنوب، كما سائر الأهالي في كافة المحافظات على امتداد الوطن، من عدو آخر للشعب وهو النظام اللبناني الطائفي الذي نهب ثروات الوطن وهدر ماله العام واحتلّ مرافقه الحيوية وهجّر شبابه وسلب إرادة الناس واغتصب أحلامهم وحرم الشعب أبسط حقوقه المعيشية والاقتصادية وانتهك كرامته وكرّم العملاء وجرّم المقاومين وجعل الوطن عرضة للخارج ليتطاول عليه ويجعله رهن إملاءاتهم وسياساتهم.
والمقاومة كما عبّر عنها الشهيد حسين مروّة وُلِدت بالأساس من أجل مواجهة الظلم بكلّ أشكاله سواءً تأتّى من احتلال أو حاكم فاسد أو ظلم. ولأنّ الطلقة الأولى جنوباً في وجه العدو الصهيوني انطلقت من صيدا، ولأنّها كانت السبّاقة دوماً في مناصرة قضايا الصيّادين والفقراء، انتفضت صيدا في الثالث والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر 2019 حيث تمّ نصب خيمة في ساحة الشهداء وتنظيم حملة شعبيّة اعتراضيّة تحت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" والتي قامت بتنظيمها مجموعة من القوى السياسيّة الشبابيّة الوطنيّة ومجموعات من المجتمع الأهلي والقطاعي، حيث قامت بمجموعة من الأنشطة ودعت إلى تظاهرات شعبيّة تمثّلت بمسيرتين شعبيتين في أحياء المدينة والسوق التجاري تضامناً مع تجّار صيدا نظراً للأوضاع المعيشيّة الصعبة وتظاهرتين على مصرف لبنان، وقام المنظّمون آنذاك بمجموعة من الحوارات السياسيّة والاقتصاديّة، وفي السابع عشر من تشرين الأوّل/ أكتوبر، وبالتزامن مع الشرارة الأولى للإنتفاضة الشعبيّة، دعا المنظّمون إلى تظاهرة مسائيّة أمام شركة أوجيرو وسرعان ما توجّه المتظاهرون إلى تقاطع إيليّا الذي بات يُعرَف اليوم بـ"ساحة ثورة 17 أكتوبر"، وقاموا بقطع الاوتوستراد الشرقي الرئيسي تماهياً مع الحالة العامّة للانتفاضة، وقام المساهمون في تنظيم فعاليّات الانتفاضة في اليوم الذي تلاه بقراءة بيان سياسي أكّد فيه المنتفضون أنّ الجنوب ينتفض وصيدا تنتفض من أجل إسقاط النظام، ومن أجل تحقيق العدالة والمساواة الإجتماعيّة، ومن أجل إقرار قانون انتخابي نسبي خارج القيد الطائفي بهدف كسر هيمنة ونفوذ واحتكار الطبقة الحاكمة للسلطة السياسية، ومن أجل محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين، ومن أجل استعادة المال المنهوب ووقف الهدر، كذلك من أجل فرض الضريبة التصاعدية على أرباح المصارف والريوع العقارية، وأخيراً، أنّ الجنوب ينتفض وصيدا تنتفض من أجل بناء الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة المدنيّة.
وسرعان ما انضمّ إلى جموع الانتفاضة في صيدا كافّة القوى والفعاليّات السياسيّة الوطنيّة والمدنيّة والجمعيّات الأهليّة والكشفيّة والقطاعيّة وقاموا بتشكيل تنسيقيّة محليّة بهدف المساهمة في تنظيم فعاليّات الانتفاضة الشعبيّة في المدينة، وازداد التجاوب الشعبي جرّاء الظروف المعيشيّة والاقتصاديّة الصعبة، حتّى امتلأت ساحة انتفاضة 17 أكتوبر بالآلاف من المنتفضين بشكل يومي من حياة الانتفاضة المجيدة.
كذلك كانت للانتفاضة في صيدا الفضل في انطلاقة الانتفاضة الطلّابيّة لطلّاب المدارس والجامعات والتي تميّزت بحضورها ووعيها السياسيّيْن، ودفعت بالحركة الطلابيّة على امتداد الوطن في اليوم التالي أن حذت حذوها، وعلى إثر الانتفاضة الطلّابية استعادت الساحات في كافّة المدن والمناطق وهجها. وقد طالت تحرّكات المنتفضين المرافق العامّة والمصارف ومصرف لبنان المركزي وفرضت عليهم حالة الإقفال التامّة لأيّام متتالية، وذلك لأنّ المعركة الرئيسيّة لهذه الانتفاضة كان يجب أن تتمركز حول رفض السياسات الماليّة لمصرف لبنان وفي المطالبة بفرض الضرائب على أرباح المصارف التي وصلت خلال عقدين من الزمن إلى 320 مليار دولار أي ما يعادل ثلاثة أضعاف الدين العام.
وبهدف رفع مستوى الوعي السياسي للمنتفضين وتفعيل النقاشات السياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة، تمّ تنظيم عشرات الحلقات الشعبيّة الحواريّة في ساحة ثورة 17 أكتوبر في صيدا، استضافت فيها الساحة العديد من الخبراء القانونيين والاقتصاديين والسياسيين والنقابيين والتربويين، ووجوه ثقافيّة وفنيّة. وقد نجحت الإنتفاضة في تعزيز حسّ المسؤوليّة والمشاركة الفعّالة تجاه ما يجري والانخراط في كامل أنشطة الانتفاضة التي باتت دوريّة يوميّة.
ترسم صيدا اليوم طريقاً للتغيير نحو مستقبل أفضل، بعزيمة أهلها وشبابها وشاباتها الذين وجدوا في الانتفاضة الشعبية أملاً في التقدّم والتغيير، وهويةً جديدةً حرمهم منها النظام القائم.