ينمو التبغ في مناطق عدة من البلاد، وخاصة في جنوب لبنان، البقاع وعكار، حيث تتوفر الظروف المناخية المناسبة له. يستخدم التبغ لإنتاج السجائر والتنباك، وهو يُعتبر منتجًا استراتيجيًا ومصدرًا هامًا للعمل والدخل للمزارعين والعاملين في هذا القطاع.
مزارعو التبغ يعملون في الموسم عامًا كاملًا، من زراعة البذور ونقل الشتول ورعايتها ثم قطافها وشكّها (تصفيف أوراق التبغ في خيطان) لتجفيفها ومن ثم توضيبها في الطرود لتسليمها إلى إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية "الريجي" التي تحتكر المنتج منذ منتصف الثلاثينيات، وقد انتفض العمال في وجهها ونظموا تظاهرات مطلبية في الأربعينيات سقط فيها ضحايا.

التحديّات...
يعتمد العديد من سكان جنوب لبنان على زراعة التبغ كمصدر رئيسي للرزق لفئة كبيرة منهم. هؤلاء المزارعون يعيشون حياة صعبة، حيث يواجهون تحدّيات متعددة في سبيل تأمين لقمة العيش لعائلاتهم، أبرزها تأثير تفاقم الاقتصاد اللبناني والعدوان الإسرائيلي الحالي على جنوب لبنان.
التحديّات الاقتصادية المحلية تتفاقم عامًا بعد عام، وعلى الرغم أن التبغ أحد العناصر الرئيسية في الاقتصاد المحلي في جنوب لبنان، وهو يُعَد موردًا هامًّا للدولة اللبنانية في صناعتها المحلية وتصديراتها الخارجية، إلّا أنها لا تُنصف العاملين في هذا القطاع والذين يعانون دومًا من انخفاض نسبة الربح مع ارتفاع كلفة الإنتاج ووجود المضاربة.
تحتفل دول العالم في الأول من أيار/ مايو من كل عام بيوم العمال العالمي، وهو مناسبة يعبّر فيها عن التضامن والتقدير للطبقة العاملة، وتهدف إلى تكريم العمال وإبراز دورهم وإسهاماتهم في تنمية المجتمعات.
إلّا أن هذه المناسبة، تتزامن هذا العام مع بروز العديد من المعاناة التي يواجهها العمال المياومون، والفلاحون ومربّو الماشية في مناطق قطاع غزة و جنوب لبنان، حيث يعيش هؤلاء العمال حياة صعبة ومريرة بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل والنزوح القسري منذ أن شنّت "إسرائيل" عدوانها على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول المنصرم في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية، وتلاها فتح الجبهة الحدودية في جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة، يوم الثامن من تشرين الأول/أكتوبر المنصرم، وفقًا لقواعد الاشتباك، إلّا أن العدو الصهيوني وسّع دائرة عملياته باستهداف مناطق بعيدة.
يحل هذا العيد على لبنان ولاسيما في جنوبه وسط تحديّات يواجهها مزارعو التبغ، حيث اضطر العديد منهم إلى النزوح من جنوب البلاد وترك قراهم وأراضيهم نتيجة لحدّة القصف ولتأثير الحرب على اقتصادهم المحلي.
وسابقًا، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية في لبنان وتدهور سعر صرف العملة المحلية، واجه المزارعون تحديّات هائلة. وتأثرت قدرتهم على الاستثمار في الزراعة وتطويرها بسبب ارتفاع تكاليف المدخلات الزراعية وزيادة تكلفة الاستيراد الأسمدة والأدوية وغيرها، وصعوبة الحصول على قروض وتمويل لتشغيل الأراضي والمعدات الزراعية.
أما العدوان الإسرائيلي المتواصل اليوم على جنوب لبنان، أثر سلبًا على مزارعي التبغ وإنتاجية المحصول وأدى إلى انخفاض الدخل بشكل ملحوظ. إذ أن حكومة تصريف الأعمال لم تتحمل مسؤولياتها تجاه تلك الفئة من المزارعين الذين حرموا زراعة موسم التبغ لهذا العام بسبب استهداف قراهم، سواء عبر تقديم التعويضات لهم، أو وضع خطوات تُساهم في دعم هذا القطاع الهام.
في المقابل، اكتفت "الريجي" منذ كانون الثاني/يناير بزراعة شتول تبغ في أراضٍ آمنة تابعة لها، وعملت على توزيعها على المزارعين الذين لم يتمكنوا من تشتيل أراضيهم بسبب الوضع الأمني، في "مبادرة إنقاذية"، إلّا أن هذه الخطوة، بقيت ناقصة، لاسيما أن العديد من المزارعين عجزوا عن الوصول إلى أراضيهم جرّاء القصف المتواصل ومنهم من نزح أيضًا.

واقع مزارعي التبغ...
وحول تأثير تراجع زراعة التبغ في المنطقة الحدودية على سبل عيش ألوف العائلات المعتمدة على هذا القطاع. وأبرز التحديّات الأساسية التي يواجهها المزارعون في هذه الظروف الصعبة، والأوضاع المستجدة بفعل الاعتداءات الصهيونية المستمرة على كافة القرى الحدودية، كان لمجلة "النداء" لقاءً حواريًا مع النقابي خليل ديب، عضو "تجمع مزارعي التبغ في الجنوب والبقاع الغربي"، حيث استعرض معاناة مزارعي التبغ الذين لا يمتلكون البديل عن مهنتهم الأساسية.
وفي تصريحه أكّد ديب "أن مزارعي التبغ في الجنوب والبقاع الغربي الذين يبلغ تعدادهم حوالي 18600 عائلة هم في مسلسل معاناة لا تنتهي فصولها منذ وجدت تلك الزراعة، فهم ينتقلون من السيء إلى الأسوأ، جرّاء سياسات شركة "الريجي" الظالمة القائمة على عدم الإقرار بالحقوق المزمنة لتلك العائلات التي ترفد الدورة المالية بمداخيل تكاد تكون الوحيدة في ظل حالة الانهيار الاقتصادي الذي تمر فيها مؤسسات الدولة في القطاعين العام والخاص. ومن ناحية ثانية بسبب الغياب الكلي لأي دور مفترض على عاتق الحكومة اللبنانية، الأمر الذي يجعل إدارة شركة الريجي المنوط بها حصرًا إدارة شؤون قطاع مزارعي التبغ في لبنان، دون أي منافسة"، مبينًا عملية الاستغلال المنظمة التي تنتهجها "الريجي"، لنهب أتعاب المزارعين والإمعان في مصادرة محاصيلهم تحت عدة ذرائع كادعائها تحمّل خسائر كبيرة في احتضان هذا القطاع.
وعن تأثير العدوان الصهيوني اليوم على جنوب لبنان على المزارعين في تلك المناطق، شدّد النقابي على "إن مزارعي التبغ هم الشريحة الأكثر تضررًا بفعل النزوح من ديارهم وعدم استطاعتهم تأهيل أراضيهم بالحراثة المتكررة وتسميدها وتحضير مساكب الشتول التي تبدأ زراعتها مع نهاية العام، حيث توسّعت دائرة الاعتداءات الإسرائيلية لتطال جميع القرى الحدودية، مما أدى إلى مزيد من الأعباء التي لا يملك المزارعين القدرة على تحمّلها، ولاسيما أنهم في ظروف الحياة الطبيعية يعانون فعليًا في مختلف مجالات الحياة، بحيث يتكبدون أموالًا تفوق قدرتهم في تمويل مواسمهم وفق الأسعار المرتفعة دائمًا، ويبذلون مع عوائلهم كل جهد على مدار السنة وبالكاد يحصلون على ما يبقيهم على قيد الحياة فقط".
وأضاف "هذا هو واقع مزارعي التبغ، يتوارثون المعاناة جيل بعد جيل وهم مضطرون لمزاولة تلك المهنة لعدم توفر البديل"..
وتطرق ديب إلى تراجع زراعة التبغ وانحسارها، جرّاء "سياسة الاستغلال الممنهج المعتمد من شركة الريجي، وسياسة إهمال الدولة اللبنانية لهذا القطاع الحي، وغض النظر عن سياسة "الريجي" في مصادرة محاصيل المزارعين"، مبينًا تأثير هذه السياسات المجحفة المستمرة عام بعد عام، ما أدى إلى انحسار تلك الزراعة حتى كادت تصل في العام 2021 إلى درجة الزوال، حيث تراجعت الزراعة إلى ما دون الثلاثين بالمئة وأدت إلى خلو مستودعات الريجي في كافة المناطق اللبنانية، ما أثر على التزاماتها في آلية استيراد المنتوجات التبغية من الخارج التي تحصل عليها عبر المقايضة بالتبغ اللبناني.
أما عن أبرز التدابير التي يجب اتخاذها لحماية هذا القطاع الحيوي للاقتصاد المحلي في الجنوب، أوضح النقابي خليل ديب "نحن في تجمع مزارعي التبغ في الجنوب والبقاع الغربي، نريد أكل العنب ولم نرد يومًا قتل الناطور. بل نريد التطور والازدهار للدورة الاقتصادية ومضاعفة المداخيل، ونتمنى النجاح لشركة الريجي في إدارة هذا القطاع على قاعدة إعطاء الحقوق المزمنة والعمل على تحديث القطاع وتطويره عبر اعتماد سياسات دعم وتحفيز المزارع بدلًا من سياسات إفقاره وتحطيم قواه وإخضاعه بمنهجية الأمر الواقع. في المقابل تعلن الشركة الريجي أنها تملك فائضًا ماليًا بلغ مئات ملايين الدولارات استنادًا لتصريحات مدير عام "الريجي" ناهيك عن المساعدات الزبائنية والهبات التي تقدمها سنويًا إلى البلديات والجمعيات".

واعتبر ديب إن هناك إمكانية لتأمين ورعاية حقوق قطاع مزارعي التبغ باعتباره أحد القطاعات المنتجة في زمن الانهيارات، وتكمن "عبر إقدام الحكومة اللبنانية من خلال وزارة المالية المعنية بهذا الأمر وفق صلاحياتها الكاملة في الوصاية والمراقبة على عمل "الريجي" بحكم عقد الشراكة الموقّع منذ زمنٍ بعيدٍ.
وتناول أوضاع سكان القرى الحدودية في ظل النزوح القسري، لافتًا أن أزمة مزارعي التبغ تتفاقم يوميًا، "فمواسمهم تضررت على مدى أعوام الأزمة المالية التي دمرت الاقتصاد كليًا، في الوقت الذي تعمّدت فيه "الريجي" شراء محاصيل المزارعين لعدة مواسم خلت بالليرة اللبنانية وبأبخس الأسعار، مع العلم أن المزارعين يستهلكون كافة احتياجاتهم بالدولار وبأعلى الأسعار مما زاد في تدهور أوضاعهم المادية واللجوء إلى الاستدانة لتأمين استمرار حياتهم الطبيعية"، كما ذكر.
وقال خليل ديب "انطلاقًا من تلك الوقائع تأتي معاناة المزارعين النازحين أكثر إيلامًا، فهم لا يملكون القدرة على مواجهة أعباء النزوح التي تتطلب الكثير من المصاريف لتأمين أدنى مقومات المعيشة.."، موجهًا "العتب على الجهات الحكومية المعنية بأوضاع النازحين بما يتجاوز كرتونة إعاشة أو المائة دولار التي لا تكفي لمدة أسبوع، فالمطلوب على وجه السرعة المبادرة لإقرار مساعدات تعتمد فيها لوائح استلام محاصيل العام الماضي من قبل "الريجي" وتقديم ما يوازيها لكل مزارع نازح من قريته وأصبح عرضة للجوع والتشرد".
وأردف "هؤلاء المزارعين تمسكوا بأرضهم ودفعوا أثمانًا باهظة في الذود عن حدود الوطن، وهم "واجهوا القصف الإسرائيلي على مدى عقود من الزمن وبعضهم هو من عوائل شهداء أو من واجه آلة الدمار في الألغام والقنابل العنقودية أليس من حقهم الحصول على أدنى مقومات الحياة الكريمة؟!".
وأضاف "ما يهمنا في "تجمع مزارعي التبغ في الجنوب والبقاع الغربي" هو رفع الصوت عاليًا للمطالبة بالحقوق المهدورة عبر الزمن وإيلاء عائلات مزارعي التبغ النازحين عن ديارهم والمتضررين على مدار الساعة من جرّاء العدوان وتداعياته التي تُثقل كاهل كل فرد من عوائلنا المنكوبة في كل زمان ومكان، إذ ندفع في كل استحقاق القسط الوفير من الأثمان"، متسائلًا "إلى متى سنبقى مجرّد أرقام في لوائحكم الانتخابية وإلى متى سنبقى ندفع فواتير لا طاقة لنا على تحملها!".

ارتفاع معدل البطالة...
إن تأثير التفاقم الاقتصادي والحرب على جنوب لبنان على المزارعين يشمل أيضًا تراجع فرص العمل وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب الريفيين. قد يجد المزارعون صعوبة في العثور على فرص عمل بديلة أو مصادر دخل ثانوية، مما يؤثر على قدرتهم على تلبية احتياجاتهم الأساسية وتحسين مستوى معيشتهم.
على الرغم من هذه التحديّات، يظل مزارعو التبغ في جنوب لبنان متمسكين بعملهم وأراضيهم. فهم يواصلون الجهود من أجل إعالة عائلاتهم والحفاظ على تراث زراعة التبغ في المنطقة. فالجنوبيون، ومنهم مزارعو التبغ لطالما كانوا رمزًا للصمود والإرادة في مواجهة الظروف الصعبة.

احتكار التبغ...
والجدير بالذكر، خاض مزارعو التبغ انتفاضة في وجه إدارة شركة "الريجي"، لتحديدها أسعار زهيدة للتبغ الذي تستلمه من المزارعين، وهذا الأسعار لا تتلاءم وأكلاف الزراعة الباهظة. وقد نفّذوا سلسلة اعتصامات أمام مراكز الشركة والبلديات في المناطق في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، رفضًا للأسعار الجائرة التي فرضتها "الريجي"، لأنها أدنى بكثير من التكلفة الباهظة التي تكبدوها، مع غلاء فاحش في أسعار الأسمدة والأدوية والمحروقات والمستلزمات الزراعية كافة.

إن الاحتكار الذي تمارسه إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانية "الريجي" بحق منتج التبغ وعماله ومزارعيه، ليس وليد الساعة. فبتاريخ 11 حزيران/ يونيو 1946 وبعد أشهر على رفض المسؤولين عن الشركة دراسة مطالب العمال المتعلقة بتحسين ظروف العمل وتخفيض ساعاته إلى ثمانية وتصحيح الأجور، أعلن العمال الإضراب المفتوح وحاولت نقابتهم مجددًا التفاوض مع مدراء "الريجي" ووزير الداخلية، لكن دون جدوى. وأقدمت إدارة الشركة على فصل 24 عاملًا وطلبت دعم الدرك لكسر الإضراب وإخراج الانتاج الموجود داخل المعمل.
وفي 27 حزيران/ يونيو 1946، صدر الأمر من وزير الداخلية بكسر الإضراب، وتحرك الدرك بكامل عتادهم لتنفيذ القرار. وبدأ الهجوم بأعقاب البنادق وإطلاق النار، فأصابت إحدى الرصاصات وردة بطرس* في الصدر. فسقطت كأول شهيدة نسائية للطبقة العاملة بعد الاستقلال على أيدي شرطة وطنها. وجرح 29 من رفاقها العمال بينهم 14 عاملة إلّا أن استشهادها لم يذهب سدى، فبعد حين حققت الطبقة العاملة اللبنانية انجازها الكبير وفرضت إقرار قانون العمل.
يُشار أن "الريجي" أُنشئت عام 1935 لتُصبح اليوم مرفقًا عامًا، تعمل تحت وصاية وزارة المال. وتتولى إدارة وزراعة التبغ والتنباك وتصنيعهما وتجارتهما في مختلف المناطق اللبنانية. وتُصنّع في منشآتها في الحدث وطرابلس، سجائر محلية وتبغ منكّه. وعملًا بالقانون رقم 151، تُعتبر "الريجي" الوكيل الحصري لجميع المنتجات التبغية المستوردة، والمؤسسة الوحيدة التي تمتلك سلطة منح تراخيص بيع التبوغ.

*ولدت النقابية وردة بطرس إبراهيم في أوائل عشرينيات القرن العشرين في بيت أحد عمال التبغ من بلدة المحيدثة - بكفيا (لبنان). ولما أقفلت معامل الدخان في بكفيا نتيجة نشوء وتطور شركة الريجي التي احتكرت شراء التبغ وتصنيعه، اضطر الوالد إلى الانتقال مع العائلة إلى العاصمة بيروت. ودخلت وردة ميدان العمل في شركة الريجي الفرنسية لحصر التبغ والتنباك حيث كانت تعمل منذ ساعات الصباح الأولى حتى المساء وبأجرٍ زهيدٍ. لذا، سعت إلى التعرف للنقابة التي أخبرها والدها أنها تدافع عن حقوق العمال، وانخرطت في صفوفها لتبدأ مرحلة جديدة من حياتها فتحت أمامها آفاق النضال. كانت تشارك بالاجتماعات وتناقش مع أترابها حقوق العمال وكيفية تطوير العمل النقابي وتوسيع صفوفه للدفاع عن حقوق الشغيلة.