التعلّم عن بعد: تحديات وهواجس


أرخَتْ جائحةُ كورونا ثِقْلَها على القطاعات السّياحيّة والإقتصاديّة والتّربويّة بعدما فرَضَتْ جميعُ الدّولِ إجراءاتٍ احترازيّةً للتّخفيف من وطأتِها. وقد أخذَ قطاعُ التّربيةِ والتّعليم نصيبَهُ الأوفر من هذه الاجراءات، فشكَّلَ التّعليمُ الالكترونيُّ، ظاهرةً أكاديميّةً -في البلدان العربيّةِ خاصّةً-بعد أن أقفلت المدارسُ والجامعاتُ أبوابَها وباتَ العامُ الدّراسيُّ مُهدّدًا خاصّةً في لبنان حيثُ كانت المؤسّساتُ التربويّة مُضّطرّةً للتّوقّفِ عن التّدريس.


جاء تطبيقُ التّعليمِ الالكترونيِّ مُفاجئًا للهيئات التّعليميّة من مدراء ومنسّقين ومُعلّمين وبالطّبع لأولياء الأمور الّذين يُعتبرون، هم وأبناؤهم، الفئةَ المُستهدفةَ في عمليّةِ التّعليمِ ككُلّ، إلاّ أنّه جعلَ المسيرةَ التّربويّةَ مُستمرّةً وبقيَ الطّلّابُ على تواصلٍ مع محيطِهم التّربويّ، في الوقتِ الّذي أفادت فيه منظّمةُ الأمم المتّحدة للتّربية والعلم والثّقافة – اليونيسكو، في تقريرٍ صادرٍ عنها بتاريخ 10 آذار 2020، بانقطاع 290 مليون طالب وطالبة على مستوى العالم عن الذّهاب إلى المدرسة بسبب فيروس "كورونا" المُستجدّ.
إذًا طرقٌ تعليميّةٌ جديدةٌ فرضَتْها هذه الجائحةُ لتلقّي المعلومة، كي لا تتوقّف عمليّةُ التّحصيل الأكاديمي، دفعت المسؤولين إلى نقل البرنامج التّعليميّ من موضعه في حرم المؤسّسة التّعليميّة إلى أماكن متفرّقة جغرافيًا. فما هي التّحديّات الّتي واجهها الطّلّاب والمعلّمون؟
تحدّيّاتٌ مشتركة أعاقت المسيرة التّربويّة في عمليّة التّعلّم عن بعد، عدا عن أنّنا غير متمرّسين من العمل على هذه المنصّات، فهذه العمليّة تستوجبُ شروطًا تقنيّة دقيقة غير متوفّرة في لبنان، حيث أنّ المؤسّسات التّربويّة تفتقرُ لمنصّات التكرونيّة خاصّةً بها تتيحُ للتّلميذ والأستاذ الولوج إليها ومراجعة المحتوى. يُضاف إلى ذلك الانقطاع المتكرّر للكهرباء وتباطؤ سرعة الإنترنت، عدا عن أنّ بعض الأهالي وبعضَ المعلّمين لا يستطيعون توفيره في المنازل في ظلّ الظّروف الاقتصاديّة الصّعبة. وعلى الرّغم من أنّ المدرسة قد وضعت في البداية نموذجًا للجدول الزّمنيّ المخصّص لإعطاء الحصص عبر الإنترنت وفقًا للجدول الزّمنيّ الفعليّ، لكنّ المدرّسين والمتعلّمين أدركوا بعد فترة قصيرة أنّهم يمضون يومهم كلّه أمام الشّاشة.
حولَ التّحديّات الّتي واجهها التّربويّون كان من الواضح وجود شريك آخر في التّعلّم (وليّ الأمر) خاصّة لمن هم في المراحل الابتدائيّة والمتوسّطة، وكان على المعلّم التّأكّد من المحتوى المقدّم الّذي يصل إلى الطّالب في بيته بحيث يكون بالمستوى الّذي يستوعبه وليّ الأمر وألا يكون معقّدًا في نفس الوقت. بالإضافة إلى أهميّة تفكير المعلّمين خارج الصندوق بطريقة تقديم المحتوى بطريقة إبداعيّة وشيّقة.
وأيضًا من التّحديّات الأخرى في هذه التجربة، هي تعليم فئة أطفال الرّوضة (3 - 5 سنوات)، لأنّها فئة تحتاج إلى التّواصل الاجتماعيّ والتّعلّم بالحواسّ، ومن الصّعب على هذه الفئة التّعلم عن بعد، لذا حاولت بعض المدارس تقديم مهام تنمية المهارات الحركيّة الصّغرى والكبرى في المنزل. يُمكننا أن نضيفَ ايضًا في هذا الصّدد أن بعضَ الأهل ليسوا على تماس مع ثقافة التّقنيّات خاصّة إذا تكلّمنا عن التّلاميذ ذوي الصّعوبات التّعلميّة أو ذوي الاحتياجات الخاصّة الّذين يحتاجون لمساعدة ذويهم. يعاني الأستاذ كما غيره من الضّغط النّفسيّ الّذي يعيشه وعائلته في ظلّ الازمة الاقتصاديّة. وعليه أن يقوم بمجهود كبير لكي يتكيّف مع التّعليم المستجدّ عن بُعد، أحيانًا يجد أمامه طلّابًا غير آبهين بأسلوب التّعليم من خلال الشّاشة، مُعتبرين أنّ الموّادّ الّتي تُدرّس عن بُعد هي لمجرّد التّسلية وسيعاد شرحها لاحقًا بعد عودة استئناف الدّراسة فلا داعي للجدّيّة في تلقّي المعلومات.
مُشكلةٌ أخرى طرحها المعلّمون، وقد لقيت تأييدًا من الهيئة التّعليميّة، هي أنّ المنهج التّربوي غير محدّث ولا يتناسب مع التّعليم الرّقميّ أو التّعليم عن بعد، وهذا ما أدّى إلى تطبيقه بشكلٍ مُشوَّهٍ في بعض الأحيان. في هذا الإطار عمدت بعض المدارس إلى إرسال الدّروس بشكلٍ يتطلّب التّفرّغ التّام لأحد أولياء الأمور لمتابعة الدّروس مع التّلاميذ، خاصّة في المراحل العمريّة الصّغيرة دون تقديم مساعدات مُستمرّة، إذْ إنّ الكثير من المدارس لم تكن مستعدّة بشكل كافٍ للتّعليم عن بعد إنّما فقط وجدت نفسها أمام الأمر الواقع، فعمدت إلى تقديم شروحات غير كافية للموادّ الدّراسيّة وقامت بما نسمّيه (تمشية حال) وهذا ما لا يمكن الاعتماد عليه.
في سياقٍ آخر، وجدت بعض المدارس (الخاصّة والرّسميّة) أنّ الطّريقة الأنسب هي في فتح خطوطٍ مباشرةٍ مع الأهل سواء بالهاتف أو من خلال مواقع التّواصل الاجتماعيّ وتقديم الدّروس والحصص بشكل مباشر بحيث يتم بثّها في نفس وقت الدّرس مع الاهتمام بمشاركة وتفاعل الطلّاب عن بعد مع المعلّم.
وجد التّعليم الالكترونيّ الكثير من التّلاميذ المؤيّدين إذْ إنّه يواكبُ تطوّرهم الزّمنيّ والتّكنولوجيّ. الكثيرُ منهم تحلّوا بوعي كبيرٍ، إذ كانوا يفتحون المنصّة في الوقت المحدّد ويُحضّرون الفروض ويشاركون في الحصص، وقد واصلوا التّعلّم عن بعد دون صعوبات تُذكر، لكنّ المشكلة الأساسيّة كانت عند التّلاميذ الصّغار لأنّهم يجدون صعوبة في الجلوس لساعات طوال أمام الشّاشة دون القيام بأيّ حركة.
اتّفق الجميع على أنّهم شعروا أنّ أجواء التّعليم عبر المنصّات الالكترونيّة لا تشبه أجواء الصّفّ الفعليّ التّفاعليّ، فالنّاحية الاجتماعيّة تكاد تكون غائبة، فالحصّة الّتي لا يمكن أن تتجاوز الأربعين دقيقة، لا تسمح بتفاعل الأستاذ مع تلاميذه. فالتّعليم التّفاعلي، يتيح للتّلاميذ التّفكير بحرّيّة ولعب أدوار قياديّة، ويتيح للمعلّم مراقبة هذا التّفكير وهذه الأدوار، ويتيح له أيضًا التّقييم والتّقويم وتوجيه التفكير. ومن الملاحظات الّتي لا يمكننا أن نغفل عنها هي صعوبة تنفيذ الأنشطة التّشاركيّة في بيئة تعليميّة ديناميكيّة وتفاعليّة. وقد أشار البعضُ إلى صعوبة تحفيز نفسهم بمفردهم للقيام بفروضهم وواجباتهم الدّراسيّة وقد تطلّب معهم الامر وقتًا تجاوز الأسبوعيْن للتّأقلم مع سلسلة التّغييرات الّتي أُجبروا عليها وذلك بفضل التّواصل المستمرّ والمباشر معهم ومع أولياء أمرهم.
ولأنّ التّربيةَ تجربةٌ إنسانيّةٌ، تتفاعل فيها قيمٌ ومعتقدات، ولأنّ التّعليم هو العمليّة الّتي تحدث تغييرًا عميقًا ودائمًا في تفكير الإنسان وقدرته على القيام بالأشياء، يجب علينا أن نفكّر بجدّيّة في صياغة استراتيجيّات جديدة تكون فيها قدرة الاستجابة والتّعاطي مع التّكنولوجيا هي سيّدة الاختيار وهي الرّهان الأوّل للنّجاح.
قد تبدو تجربة التّعليم عن بعد مفيدة لإبقاء التّلاميذ في أجواء الدّراسة ومنع تشتّتهم لوقت طويل في ظلّ الأزمات المتلاحقة التي يعيشها لبنان، لكنّها حتمًّا ليست تجربة تسمح بالحلول مكان التّعليم التّقليديّ والحضور إلى الصّروح التّربويّة وارتياد الأبنية والمكتبات ومعاينة الكتب ومتابعة الدّروس الصّفيّة.