الأبواب السبعة

إنّهُ أحد الذّين لا ينشقّون، بل يحملون ذواتٍ أخرى..

بحماسةٍ يفتحُ البابَ الأوّل على الأقمار السبعة، تُحَنّيهِ باحتمالاتٍ سوف يلقاها. يفتح الباب الثاني على مشهديّة الدّموع الحرّى، يُصابُ بعدواها المؤثِّرةِ الرائعة، يحتمل فيها الخروجَ على تلك البدايات السحيقة، يجهد في الوصول إلى أنوارٍ هناك مُسجّاة. وليس الباب الثالث.. غير حكايا منسيّة، ترجّلً عنها أصحابها .. ومضوا بتواضع، إنّما لرائحة الأرض تشكّلُهم، يسعون فيها حيواتٍ مختلفة، قوية الحضور، يخطّون بحبر النجيع .. الأمداء الخضراء.

حين بلغ رابع الأبواب، وجد مَن يحتطب الشّموس، وقد تطاول خيالُهُ .. مدفوعاً بإرادة الضوء، كاسراً روح الشرور، نافياً فؤوس القرون. والخامس على مبعدة شبحٍ .. لقلبٍ يتقلّبُ في شَغافهِ خَلْقٌ كثير، وبأنّ السادس استواء المُطلق .. فكان هذا الوجود، يتبع ما جرى فيه على لسان الدّهور، وتلك العيون روّاها .. كي نكونَ أحراراً.

معي، ألقاهُ في خفقان الأصيل، حين يتدلّى مكرُمَةً لاعتصارٍ في كؤوسٍ محاريّةِ الأحلام؛ فكنتُ أستيقظُ متصلاً بحبله السُريِّ .. في ليلةٍ أٌسريَ بنا إلى دمٍ تعالى كالجدران، وليس غير سابعةٍ سكنتْ عند الباب الأخير، هناك.
وجدتُني على رأس خميسِ عظيمِ من مختلف الكائنات، كأنّا خضنا معاً .. معاً منذ البدءِ حروبَ الأكوان.
حروبٌ لم تكن خياراً، تقوم، تقع في خانة الغزو للسلب والنهب، والأدهى .. في سبيل الخالق. ونحن مثل خيالِ يطول ويقصر أمام الباب السابع، رحنا نستجمع السنين المهروقة.
كنّا، كلّما نقترب، نزداد اكتمالاً وانصهارا، حتى بلغنا، عرفنا كيف ننعقد والليل، نرتديه من أعلى انسداله حتّى أطرافه، وإذا ما تفجّرَتْ شمس النهار، اختلفنا إلينا من أغمار النوم، برؤىً ومناماتِ مختلفة الألوان والحروف، لكنّها الدّهشة تعقد الرؤى  .. فإذّانا وقعنا في حُلُمِ واحد، نحفر في تفاصيله،  لا نرغب عنها، والرّغبات تدانيها، تداعبها رِعشاتٌ كأمواج البحر إبّان فصل الصيف، وقد تناهبتهُ الأجساد هرباً من حمأة الّلهب.
كان، يجري تلاهُبٌ محموم الميادين؛ فأوْدَعْنا عند الباب السابع مليارات البشر، وقد ناهزوا السبعة .. والليل داجٍ، يكتظّ بالحُجى؛ فانبرتْ أحاديث الماء .. تتلامس والأجساد، تختال قبلات النّار في الهشيم، وتلك الرّياح لا تترك زاويةً، لا تلبث .. تخلد في إصبع طفلٍ .. يُخربش الفصول، وقد تعالت صيحات القرابين، تتخاطفها النذور إلى حفل حتفها الموسميّ، آلهة سمُّوها وهماً، وهم، مثل أطياف فزّاعات الحقول.
كان، وتدفع الحشودَ الحشودُ، هنا، في سابعة المشهد من الهجرات والفتوحات، من السماوات والأراضين، من قيامة الوجود وانبساق الحياة، من إيماءات النصر، من الولادات المتمرّدة قبل أوانها، من أفكارٍ تضجّ بالأفكار والصّور، من ومن ومن .. منذ سبعين مضت، ونحن .. نحيا البهتان والخسران، نُصَنِّمُ المبادئَ والثوابت والأخلاق، نجعل المعابدَ عُلبَ سردين للعنصرية في اللون والعِرق والدّين والمذهب، محنّطون بالجراح والآلام، بِحُجُبِ العقول .. يومَ قتلنا إبن رشد بإحراق مؤلفاته، وهو يوم طويل النيْلِ من جُلِّ العلماء على مدى العصور.
بعد وقتٍ نسبيٍّ، تناسل أمام الباب السابع مخيمٌ هنا وهناك وهنالك، وكانت الخطورة في الإجراءات الداعمة لهكذا تحشيد لا يُراعى فيه أدنى مقوّمات الحياة، والباب الأخير منتصبٌ كالباب العالي، وبموازاة التوتر والقلق، خساراتٌ مفجعة، لكن، ماذا بعد هذا الباب الهائل، هل ثمة عوالم، هل ثمة خلاص وأبديّة، هل وهل .. أسئلةٌ تُلقي بظلالها على العقل والأعصاب، أسئلةٌ لا يُنتَظرُ لها جواب.
كان، أخذتُ بتلابيبَ أفكاري، وبعض سُبل الروح، تفوح عنها نفحاتٌ متآرجةُ ذكرياتٍ يُمنَعُ الخروج منها أو عنها، وليس بإرادة فعل القوُة، بل بفعل المكين السابغ الحنين.
كنّا هنا، حتّى وقعت الفتنة بأوصافها القريبة والبعيدة، المعهود منها واللامعهود. هاك، وقع مَن وقعَ وراء خطوط العدوّ، ومَن في احترابه الأهليِّ هنا، ومَن هم لفعل المقاومة الحقيقية، مواجهات ذات مخاضٍ واحد، ولم يطل الأمر بسقوط المُحتَلين والمتعاملين، وتحرير الأرض والدّماء، الزمان والمكان الإنساني، الذكريات والحضور.
ولا تكون على غير مقام، والقدَمُ تجرُّ الدّروب، أمنحُ بعضي القادم المُقبل، حُجىً لذاتي الفقيرة الغنيّة، أعبرُ فيها سُبلَ الرماد، وبلاد الشرايين .. مقطّعة، والأرض باحتمال توهةِ وجوديّة، حيث الزرع عصيٌّ وعنيد، والوقت مسحوب، والذين آووا إلى .. إلى القنوط والقنوت .. باؤوا بمكانين ألِمَيْن. أماكن وأرواح تُلتهم،  وليس التراب غيرها، هناك مكثنا بلا زمن، نُدفعُ لأدوارنا، وقد تركنا الأفكار الولود، أجهضنا المُتَحَجِّر منها، سمقنا في كُنْهِ الإرادة وسنخها، وماذا كي نكون في ذات الحلم الواحد، والروح والعقل، في ذات الفعل سيوف الموج والملح، سيوف الشّمس والذات، تلك نبذلها لمنح أنفسنا أحلاماً حقيقية، ذكرياتِ حقيقية، انتصارات حقيقية.
أمام الباب السابع، نمتْ في برهةٍ وجيزة شجرة لبلابٍ، خلفها شجرة صفصاف، خلفها ما لا ينتهي من كلِّ صنفٍ ولون. وكنّا واحداً قادراً على حمل السّماء بكفٍّ مشرعة، تبدو أوراقها .. تتثاتى، تتكاتف مثل أفكارِ في مجلّداتٍ .. كان وصَلَنا منها القليل.
كان الاستعمار، يقيم جُدُرَ الحماجم .. من بلادنا عبر المشارق والمغارب .. حتّى، إلى متاحفه الباردة. بذورٌ ما للأجداد .. نثرناها، تتباسق فينا من كلّ لونِ بهيج، وليس لغبرة الهيجاء المتلاطمة غير فرسانها، يسحبون عن الليل أخيلةَ الإمكان، يزحفون بأردية الريح، بحطام السنين، بيوميات القهر، يصدحون ببصمة الانوجاد، واللحظة التالية بالدّهور، بقمحٍ  في تاليات الكتاب. حين ابتدأنا بفاتحة الضوء .. فُتِحَ الباب، دخلناها تلك الأمداء غير منزوعي السلاح، آمنين.