وإرتباطا بمواقفنا المبدئية المتكرّرة منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية، لا يسعنا سوى التأكيد مجدّدا على أن لا أمل مطلقا في "الحلول" التي يسعى تحالف القوى الطبقية - الطائفية الى إقرارها وتنفيذها. فالذي بلور ورعى وواكب ونفّذ السياسات المرتجلة والمشبعة بالهدر والفساد والسطو على المال العام والخاص منذ أوائل التسعينيات - مستظلّا بالنمط الاقتصادي الريعي وسياسات التثبيت النقدي - لن يكون مهيّأ لا من الناحية السياسية ولا من الناحية المهنية أوالتقنية أوالأخلاقية كي يجترح الحلول المناسبة للأزمات المتفاقمة التي يتحمّل هو مسؤوليتها. وهذا الاستنتاج يبقى قائما بالرغم مما يجري الحديث عنه من متغيّرات نسبية طرأت مؤخّرا على المستويين الدولي والاقليمي وساعدت بشكل أو آخر في تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة.
ولا بأس من التذكير أننا إختبرنا الدولة الطائفية والنظام الطائفي منذ نحو مئة عام، وجرّبنا خلال هذه الفترة كل أنواع التوازنات الطائفية المشفوعة برعايات أجنبية متنوّعة ومتقلّبة ولكلّ منها أجنداته الخاصة. فانتقلنا من "الصيغة الأم" المتمثّلة في المارونية السياسية الى صيغ هجينة وملتبسة من نوع "السنية والشيعية السياسية"، بدءا من اتفاق الطائف ثم اتفاق الدوحة فمشاريع المثالثة والمرابعة وغيرها من قائمة المشاريع والأوهام التي لا تخدم إلا مصالح قلّة قليلة من اللبنانيين.... أما بالنسبة الى غالبية اللبنانيين، فقد إنتهت كل هذه التجارب الى الفشل الذريع، ولم تنجح سوى في تعميم الفقر والبطالة والعوز وتعميق مشاعر القلق والترهيب والتخويف بين أبناء المجتمع الواحد، وإعادة إطلاق موجات عاتية من الهجرات الخارجية التي - إذا ما استمرت قائمة - لن يكون البلد بعد خمس أو عشر سنوات على ما هو عليه الآن، بل سوف يتحوّل مع هذه الهجرات الى مجتمع مقطوع عن جذوره ماضيه.
إن الكثير من الأسئلة والتساؤلات يطرح حول "حظوظ" الحكومة الميقاتية بالتقدّم على طريق المعالجات الموعودة، ربطا بما انتهت اليه تجربة حكومة حسان دياب. وبالرغم من أن الحكومتين هما الإبنتان الشرعيتان للمنظومة الحاكمة ونظامها الطائفي، فانه لا بدّ من لفت النظر الى أن حكومة دياب تجرّأت – بصرف النظر عن الخلل الكبير والنواقص والفجوات في خطة التعافي الاقتصادي والمالي الصادرة عنها – في تحديد قيمة الخسائر وتعيين الخطوط العامة لآليات توزيعها مع الاعلان الصريح عن تحميل المصارف ومصرف لبنان جزءا كبيرا من هذه الخسائر. وهذا ما إعتبر آنذاك بمثابة خرق صريح للسقف السياسي المسموح لحكومة ديات التحرك تحته، مما حدا بالمصارف والأوساط النافذة في المجلس النيابي ولجانه بالتصويب على هذه الحكومة ودفعها دفعا نحو العودة الى الانتظام تحت ذلك السقف الى أن حان أجلها مع انفجار مرفأ بيروت.
ومع الحكومة الميقاتية، تبرز شكوك وتساؤلات ونقاط ضعف كثيرة حول نوع وحجم استعدادتها وقدراتها الفعلية على توفير معالجات كفؤة ومناسبة، بحسب ما يمكن استنتاجه من الملاحظات التالية:
- مضى أكثر من عام ونصف على الاعلان عن خطّة التعافي الاقتصادي (الرئيس دياب)، وقد تضاعفت خلالها حدّة تدهور المؤشرات الاقتصادية الأساسية، لا سيما سعر صرف الليرة اللبنانية. يكفي أن نشير الى أن تلك الخطة كانت تعد بسعر لليرة يراوح بين 4 و5 آلاف ليرة للدولار الواحد في غضون السنوات الثلاث القادمة (2023-2024)، وإذ بحكومة ميقاتي تجد نفسها راهنا أمام سعر للعملة الوطنية لا يقلّ عن 17 ألف ليرة للدولار (والحبل على الجرّار).
- تشكّلت حكومة ميقاتي من عدّة قوى "ضاغطة"، أهمّها مجموعة المصارف ومصرف لبنان ومجموعة المؤسسات الدولية لا سيما البنك الدولي وصندوق الند الدولي، إضافة الى مجموعة تعبّر عن مصالح النواة الأساسية للطبقة السياسية "العميقة". وانعكس هذا التوزيع في تشكيل الوفد المفاوض مع صندوق النقد الدولي، مما يثير الكثير من المخاوف حول حجم ونوع التنازلات التي يرجّح أن يقدّمها هذا الوفد أمام الصندوق، في ظلّ حكومة من رحم السلطة يغيب عنها شريك أساسي يمثّل المصالح الحيوية لعموم اللبنانيين، لا سيما العمال والفئات المتوسطة والفقيرة.
- تحت حجّة الاسراع في المفاوضات مع الصندوق، يتزايد التوجّس من توجّه رسمي نحو القفز عمليا فوق العديد من المسائل الخلافية الأساسية التي تطال المصالح المباشرة لفئات واسعة من اللبنانيين، وبخاصة مسألة تحديد الخسائر وتوزيعها العادل ومستفبل الهيركات الفظيع الجاري تنفيذه على قدم وساق من قبل البنك المركزي والمصارف والمحتكرين، وبالتواطؤ مع أركان القوى الحاكمة. كما تطال هذه المخاوف أيضا مصير التحقيق الجنائي والرقابة الفعلية على التحويلات الى الخارج واسترداد ما جرى تحويله بشكل غير قانوني من هذه التحويلات الى الخارج.
- يستمرّ اللغط حول الدعم وتداعيات إلغائه والبدائل المقترحة له، بالرغم من عشرات المحاولات الرسمية التي ما برحت تتعاقب على هذا الصعيد منذ أكثر من عام وحتى تاريخه. ومع ترسّخ المصالح "السياسوية" والمصلحية وغياب القواعد الاحصائية الشفّافة، تزداد المخاوف يوما بعد يوم من توظيف هذا الملف في الوجهة الزبائنية والانتخابية التي تخدم القوى المتنفّذة داخل الحكم. وفي هذا الاطار، تحوم في الأفق المخاطر الداهمة من احتمال "ليرلة" البطاقة التمويلية وممارسة الاستنساب في توزيعها وعدم توفير الضمانات اللازمة لتأمين استدامتها.
- ثم أن هناك فرقا كبيرا بين ان يذهب الوفد للتفاوض مع الصندوق صفر اليدين ومن دون رؤيا اقتصادية جامعة وسط انقسامات وتباينات بين اطراف السلطة الحاكمة، وبين ان يذهب ويكون ممتلكا لمثل هذه الخطة ولتفاصيلها المتعلقة بالإصلاحات القابلة فعلا للتنفيذ وبإعادة هيكلة القطاع المصرفي والدين العام والانفاق العام والواردات العامة والنظام الضريبي.
إن كل ما رشح عن توجهّات الحكومة الميقاتية لا يشير الى معالجات رصينة وعادلة للكثير من الملفات الشائكة التي تعني عموم اللبنانيين، ومن ضمنها: ملف تصحيح الأجور، ملف أنظمة الحماية الاجتماعية والصحية والتأمينات والصناديق الضامنة، ملف النهوض بالتعليم الرسمي العام والمهني والعالي، فضلا عن سائر الملفات المتعلقة بالخدمات والمرافق العامة الأساسية بدءا من الكهرباء والمياه والنقل. ومن الناحية العملية، يعكس تجاهل أو تجهيل هذه المعالجات إصرار السلطة والطغمة المالية والمصارف على تحميل العمال والفئات الشعبية والفقراء وزر الإنهيار الحاصل، وإصرارها كذلك على الإسراع في بيع الأصول والمرافق والمؤسسات العامة. وإزّاء هذه الاحتمالات المقلقة، ليس ثمّة بديل سوى إعادة استلهام وإحياء روح الانتفاضة الشعبية وتجميع أوسع أطيافها المتحرّرة من قوى السلطة وعصبيات الطوائف والأجندات الخارجية، وتحصين هذه الكتلة الشعبية الواسعة ببرنامج للتغيير السياسي والاقتصادي وبأطار ديمقراطي لقيادة تنفيذ هذا البرنامج.