ذكرى 15 أيار...*

تعودُ اليومَ، إلى أذهان العرب، ذكرى أفدح فاجعةٍ قوميةٍ أَنزلَها الاستعمارُ العالمي بأمّتنا في تاريخها الحديث. نعني بها ذكرى الخامس عشر من أيارعام 1948، يوم أُتيحَ للاستعمار والصهيونية العالمييْن أن ينفّذا خطط المؤامرة الكبرى التي رسماها معاً منذ الحرب الكونية الأولى، أو قبل ذلك، لاغتصاب البقعة المقدّسة العزيزة من أرضنا العربية، ولغرس "وتد جحا" في قلب بيتنا العربي الكبير!

ففي ذلك اليوم الأنكد ذاته، غرزَ الاستعمارُ الأنكلوأميركي، فعلاً، ذلك "الوتد" بيديْه وفق خطةٍ دقيقةٍ عجيبة غُلّفت بتلك الخدعة الماكرة التي سُمّيتْ "حرب فلسطين"!
وفي ذلك اليوم الأنكد ذاته، خرج الاستعمارُ من أرض فلسطين بوجهٍ، ودخل إليها، في لحظةٍ واحدة، بوجهٍ مقنّعٍ آخر أُطلق عليه اسم "إسرائيل"!
وها قد انقضتْ، منذ ذلك اليوم، إحدى عشرة سنة أقام الاستعمارُ العالمي خلالها ألفَ دليلٍ ودليل على أنه صنع هذه ال"إسرائيل" في أرضنا، لا عطفاً على "شعبِ إسرائيلَ" كما زعم ، بل تحقيقاً " لفكرةٍ استعماريةٍ عدوانيةٍ مجافيةٍ للعدالة، ومنطويةٍ على مؤامرةٍ سافرة ضدّ شعبٍ آمن لا ذنب له ".
لقد بادر المستعمرون، منذ بسطوا ظلال الانتداب على فلسطين بعد الحرب الأولى، لتمهيد السبيل أمام تلك " الفكرة" حتى يُتاحَ لهم بعد حين أن يصنعوا منها "أمراً واقعاً"، وحتى يكونَ هذا "الأمرُ الواقع" شكلاً جديداً من أشكال الاستعمار في عهدٍ ظهرتْ فيه قوى التحرر الوطني العربي، وأخذت تنمو هذه القوى بصورةٍ يتراءى خلالَها شبحُ الخطرِ على مصالح الاحتكارات الاستعمارية ومواردها الغزيرة في هذا الشرق.
وقد كان من أسوأ ما فعله المستعمرون لتمهيد هذا السبيل أمام هذا "الأمر الواقع"، تمكينُهم الهجرة الصهيونية إلى فلسطين ، تدريجيّاً، بأساليب ملتويةٍ حيناً، وأساليبَ صريحةٍ فاضحةٍ حيناً آخر، يغذّونها بالأموال المتدفقة -من أميركا على الأكثر- تحت أستارٍ متنوّعةٍ خادعة، حتى حان الميعادُ لتنفيذ المؤامرة المرسومة منذ أمدٍ بعيد... فإذا الأستارُ كلُّها تتكشّفُ عن الحقيقة الرهيبة، وإذا المؤامرة نفسها مزدوجة: مؤامرةُ غصبٍ واحتلالٍ لأرضٍ عربيةٍ عريقةٍ من جهة، ومؤامرة تشريدٍ لأهل تلك الأرضِ المحتَلّة من جهةٍ ثانية.
ومنذ ذلك الحين حتى اليوم، ظهر بما لا يقبل الشك أنّ "إسرائيل" لم توجد قط إلاّ لغرَضٍ واحد، هو أن تكون للاستعمار العالمي، بل الاستعمار الأميركي بالذات، قاعدة عسكرية واقتصادية وسياسية في آنٍ واحد...
"إسرائيل" إذاً ولدت وعاشت، وهي تحيا الآن وتنمو، برغبة الاستعمار وتدبيره وسلطانه ورؤوس أمواله وأسلحته وعتاده ورعايته وحمايته.
واليوم، ونحن أمام هذه الذكرى الفاجعة لا نرى سبيلاً إلى مكافحةِ خطر "إسرائيل" الرابضِ على مجرىً رئيسيّ من مجاري أنفاسنا، كأمةٍ تريد الحياة والبقاء والاستقلال والازدهار، إلاّ بمكافحة الاستعمار العالمي ذاته، وإلاّ بمعاداة هذا الاستعمار وتضامن كل صفوفنا الوطنية العربية تجاهه، في معركتنا الدائرة ضده.
إنّ التباكي على فلسطينَ اليوم، في حين تتصافقُ أيدي المتباكين مع أيدي المستعمرين وعملائهم، لا يعني شيئاً إلا التآمر، من جديد، على فلسطين!

* نعيد نشر هذه المقالة للشهيد حسين مروة ، والتي نُشرت سابقاً في "النداء"، زاوية " في السياسة العربية" بتاريخ 51أيار 1959

 

  • العدد رقم: 357
`


حسين مروة