مع العلم أنّ بيانات "طمأنة" كثيرة من قبل القوى الأمنيّة سبقت التحرّكات، وأكّدت الوقوف إلى جانب المتظاهرين، ومن بينها كلام المدير العام لقوى الأمن الدّاخلي الّذي أكّد أنّ "القوى الأمنية ليست عدوّة إخوانها المتظاهرين"، إلّا أنّ أرض الواقع عرضت مشهداً مختلفاً. مشهدٌ موثّق بالصّوت والصّورة، القوى الأمنية التي استخدمت كل الوسائل العنفيّة بحقّ المتظاهرين، والتي كرّست كلّ قدراتها البوليسيّة لتأمين وصول النّواب "المرتعبين" من الشّعب ومن نقمته عليهم، لتتحوّل القوى الأمنية من حامية للشّعب كم تدّعي إلى سلاح سلطوي بحت لمحاربة المتظاهرين.
الشعب مصدر السّلطات
بغضّ النّظر عن كمّية المشاركين في التّظاهرات يوم جلسة مناقشة البيان الوزاري، إلّا أنّ إنتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر وضعت خطوطاً حمراء، وقالت منذ الليلة الأولى من ولادتها أنّ "لا ثقة" بهذه السّلطة و"لا ثقة" بأيّ من مخلّفات هذه السّلطة الّتي نهبت، سرقت ومرّرت الصّفقات على حساب الشّعب وعلى حساب كرامة المواطن وحقّه في العيش الكريم. ومع العلم أنّ الحديث عن فسادها يحتاج لمطوّلات، ولكن لا بدّ من التّذكير بأنّ السّلطة التي هدمت بيوت الفقراء فوق رؤوسهم، لتبني قصورها المنمّقة، والّتي ردمت البحر لتستثمر مشاريع تبغى الرّبح الخاص، والتي ذلّت المواطن أمام أبواب البنوك وأبواب المستشفيات والّتي لم تفوّت فرصة للتّنكيل بالشّعب، لا يمكن إعطاؤها فرصة أخرى!
للتّذكير، ورد في مقدّمة الدّستور اللّبناني بموجب القانون الدّستوري الصّادر في 21/09/1990 (البند د): "الشّعب مصدر السّلطات وصاحب السّيادة يمارسها عبر المؤسّسات الدّستورية"، غير أنّ السّلطة في لبنان على ما يبدو ضربت الدّستور عرض الحائط أو أنّها تأخذ منه ما يحلو لها وما يناسب مصالحها. وبما أنّ الشّعب هو مصدر السّلطات، وبما أنّ الشّعب قال كلمته، ونزل إلى الشّارع، وعبّر بكلّ السّبل الممكنة أنّه يرفض استمرار هذه السّلطة، يرفض استمرار المحاصصة، استمرار الصفقات على حساب الشّعب، يرفض الفقر والموت على أبواب المستشفيات، يرفض استمرار السّياسات الإقتصادية الّتي راكمت الدّيون على المواطن وعلى الدّولة اللّبنانية.
وعلى الرّغم من وضوح مطالب الشّعب، ومرور حوالي أربعة أشهر على الانتفاضة الشّعبية، دخل النّواب إلى المجلس، النّواب الّذين من المفترض أن يكونوا "ممثّلين للأمّة" وصوّتوا لصالح الحكومة، على الرّغم من أنّ صوت الشّعب كان مرتفعاً وواضحاً وضوح الشّمس: "لا ثقة"!
استمراريّة لمنظومة الحكم الفاسدة
بدأت جلسة الثّقة، بشكل غير قانوني، ولو أنّ رئيس مجلس النّواب نبيه برّي نفى ذلك. استُهلّت الجلسة بكلمة رئيس الحكومة حسّان دياب الّذي فصل نفسه عن النّواب وعن السّلطة تحت مظلّة "نحن جداد وما خصنا"، مع العلم أنّه وحكومته ليسوا إلّا استمرارية لنظام الحكم، وللمنظومة الفاسدة نفسها ولكن بقناعٍ جديد هذه المرّة. على سبيل المثال لا الحصر مرّت جلسة الموازنة مرور الكرام، أخذت الحكومة الجديدة موازنة حكومة الرّئيس السّابق سعد الحريري، بما فيها من إصلاحات "خياليّة" وتحسينات "وهميّة" (بشهادة خبراء إقتصاديين) وبما فيها من استمراريّة للاستدانة والارتهان للخارج. مع العلم أنّ الخارج الّذي تعوّل عليه الحكومة أوضح عدّة مرّات تريّثه وعدم استعداده لتقديم المساعدات للبنان، وأنّ موقف الشّعب من هذه الموازنة كان صريحاً من وقت إعلان الحريري سلسلة الإصلاحات الكاذبة.
حكومة فارغة من المضمون
في الواقع، إنّ حكومة الرّئيس دياب فارغة من المضمون، فارغة من الخطط الإنقاذية الحقيقية المبنيّة على أسس علميّة، فارغة من مشاريع التّطوير والتّحسين. إذ بين وزير يجزم استحالة عودة سعر صرف الدّولار لما كان عليه في السّابق، وبين وزير آخر يتبنّى نفس خطط الكهرباء الموضوعة من قبل الوزراء السّابقين، خططٌ ومشاريع متماثلة أثبتت فشلها. في الواقع لم يلتمس المواطن الذي استنزف كلّ طاقاته لتغيير هذه المنظومة الفاسدة أي بادرة إيجابية من هذه الحكومة، ولم يلتمس أي أفق لتحسين الوضع الإقتصادي العام.
أسئلة كثيرة تجول في الفكر، هل يصوّب الشّعب سهامه على الحكومة؟ أم أنّه يصوّب سهامه ويصبّ نقمته على النّواب الذين لم يقوموا يوماً بدورهم الحقيقي وواجبهم الدّستوري الذي يقضي بمحاسبة الحكومات ومراقبة عملها، ونقدها بشكل مهني، ومحاسبة مرتكبي الفساد من خلال القضاء المختصّ. قد تكون نقمة الشّعب على الاثنين معاً، ففي نهاية المطاف هذه الحكومة هي حكومة اللون الواحد، هي الحكومة التي لم تأخذ بعين الاعتبار مطالب "17 تشرين"، وهي الحكومة الّتي استكملت مسيرة الحكومات السابقة الّتي أثبتت فشلها، وهي الحكومة الّتي أكملت مسيرة "رفع الجدران" بينها وبين الشّعب، و"المكتوب بينقرا من عنوانه"!