وينسب بعض أهل السلطة، مسؤولية الوضع الكارثي في بلدنا، إلى وجود مؤامرة خارجية، ترمي إلى زعزعة الوضع اللبناني الهشّ بالأساس، لإضعافه، وجعل لبنان يرضخ للمخطط الأميركي الصهيوني، خصوصاً الآن، في موضوع "صفقة القرن" المُدانة والمرفوضة، ومعها توطين اللاجئين الفلسطينيين، والضغط على لبنان في ترسيم الحدود، وفي شأن الثروة البترولية في مياهنا البحرية، التي تطمع بها "اسرائيل". كما أنّ من الأغراض الأساسية لهذا المخطط، إثارة الصراعات والنزاعات المحلية لتفتيت البلدان العربية خصوصاً المحيطة بـ"إسرائيل" ومنها لبنان، وتحويلها إلى دويلات دينية وطائفية وأثنية، لتصبح الدولة الدينية اليهودية الأقوى في محيطها، وعلى حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية.
ومع أنّ هذه الأهداف العدائية للمخطط معروفة، إلّا أنّ التذرّع بها لتبرير تدهور الأوضاع وتفاقم الأزمات، التي يُناط أمر معالجتها بالسلطة اللبنانية، هو هروب من المسؤولية وتغطية لمنظومة الفساد ونهبها للدولة. فهل هذا الفساد والصفقات في الكهرباء والاتصالات ومعالجة النفايات والتلوث البيئي الخطير، وانعدام الضمانات الصحية والاجتماعية لقسم كبير من اللبنانيين والهدر الفاضح في المرفأ، إلخ... هو من صنع الامبريالية؟ المسألة الأساسية هنا تكمن في كيفية التصدي لهذا المخطط العدائي من جهة، ولإهمال وفشل الطبقة السلطوية في العمل لمنع الانهيار داخلياً، من جهة أخرى.
فالمواجهة تمرُّ بالضرورة، برفض استمرار سياسات الطبقة السلطوية التي جعلت الوضع الاقتصادي والمالي في موقع التبعية لمراكز الرأسمالية المعولمة التي توجّهها أميركا، وبإحداث تغيير جدي لإزالة نظامها التحاصصي الطائفي الفاسد، لتجفيف منابع التناقض والانقسامات، واقامة دولة وطنية على قاعدة الديمقراطية والمواطنة والعدالة الاجتماعية.
وهذه الانتفاضة يجب أن تلبّي المطالب والحقوق الشعبية، بديلاً لدولة طائفية تنخرها التناقضات ويعشعش الفساد في كلّ مفاصلها. ولقد بات ولوج طريق التغيير، ضرورة إنقاذية للخروج الفعلي من الأزمات والانهيار من جهة، ولتعزيز مناعة لبنان وطنياً في وجه كل انواع الضغوط والتحديات الخارجية، من جهة أخرى. ورغم الحاجة الملحّة لاعتماد هذا المنحى الإصلاحي والتغييري، نجد الأطراف السلطوية تستمر في النمط نفسه، سواءً في إدارة الدولة أم في تشكيل الحكومة الجديدة والجنوح نحو خصخصة مؤسسات الدولة المربحة. وما زال انشغالهم الأساسي في التحايل والتزاحم والصراع على الحصص والحقائب الدسمة، والتعاطي مع الدولة ومواردها كأنّها مجرد محميات وموارد مفتوحة لفسادهم، ومواقع مملوكة لهم. فقد كانوا مطمئنين لغياب المحاسبة برلمانياً وقضائياً، واعتبار أنّ الشعب مغيّب وغارق في انقساماته الطائفية. في حين أنّ الشعب إذا صمت حيال هذه الحالة المأساوية يكون شعباً ميتاً.
واندفاع مئات الآلاف إلى الشارع بانتفاضة خارقة للحواجز الطائفية والمناطقية، أظهر عكس ذلك، وجسّد الرد الوجع المشترك لجميع كادحي شعبنا وطبقته الوسطى، ذات الحجم الأكبر في مجتمعنا اللبناني، وطبيعي أن يحوي مثل هذا التحرك الكبير، تنوعاً حتى بالمشارب السياسية للبعض. لكنّ ذلك لم يحل دون التبني للمطالب الشعبية الأساسية المشتركة للانتفاضة، وتنامي وعي أهمية التحرك الجماهيري المشترك، وتعزيز شعور الناس بدورهم وبقدرتهم على المواجهة والمطالبة الفاعلة بمكافحة الفساد ومحاسبة الفاسدين، واستعادة المال المنهوب ووقف الانهيار، وإجراء انتخابات مبكرة على قاعدة قانون انتخاب جديد نسبي وغير طائفي وفي دائرة وطنية.
أمّا من يرى تعارضاً بين الانتفاضة والمقاومة فإنّه يتغاضى عن رؤية فداحة الانهيار الاقتصادي والمالي على الوضع الاجتماعي للشعب بشبابه وكل أطيافه، ومن ضمنه على شعبية المقاومة. فوضع المقاومة في مواجهة الانتفاضة أو العكس ايضاً، هو تجاهل للترابط والتكامل الموضوعي والواقعي القائم بينهما، فالمقاومة من أجل كرامة الوطن وحريته، لا تنفصل عن مقاومة الظلم الاجتماعي والفقر المذلّ الذي يلحق بكرامة المواطن وحريته، فهما وجهان لعملية واحدة. وإنّ فكرة الصمت عن معاناة الشعب وفقرائه من جراء السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية المتبعة والمال المنهوب، بداعي حماية ظهر المقاومة، أثبتت التجربة، في أول حرب تموز 2006 بطلانها. فلا تُحمى المقاومة بمن ينتظر أول فرصة للطعن في الظهر. والأساسي والثابت هو كسب تأييد الشعب وتبني قضاياه وحقوقه. وكون المخطط الامبريالي يستخدم أشكالاً وأساليب متنوعة، من الضغط السياسي إلى الامني والعسكري، وإلى الاقتصادي والمالي.. إلخ. فإن مواجهته تستدعي سدّ كل المنافذ التي ينفذ منها، بما في ذلك انقسامات ومعايير نظام التحاصص الطائفي. وهذا ما يقتضي مقاومة تشمل جميع المجالات، ويتكامل فيها الوجهان الوطني والاقتصادي والاجتماعي. فالتحرير لا يستوي مع التجويع والتبعية والاهتراء الداخلي.