ثلاثة رموز لأربعة أيوب: البحر والصبر والكركم


اعتاد البيارتة الخروج الاحتفال بأربعة أيوب بالخروج إلى شاطىء البحر عند شوران وقضاء النهار في لهو ومرح وممارسة بعض الشعائر والتقاليد .

تقول المأثورات الشعبية أنه في أحد أيام الأربعاء حلّ فصل الربيع وعثر أيوب (شخصية في الديانات الإبراهيمية معروفة بصبرها على البلاء) في بلواه على عشبة، يسمّونها في لبنان حشيشة أيوب فبلّها في الماء زمناً ثم اغتسل بماء هذه الحشيشة فشُفيَ من الأمراض السبعة التي ابتُليَ بها. وهذه الأربعاء هي "أربعة أيوب" ويسمّيها البعض أربعة البراقطة، وتتميز في بيروت بالخروج إلى ميناء (مينة) الدالية في محلة شوران والاغتسال بماء البحر آخذين معهم نوعاً من الحلوى يسمى "المفتقة". ومنهم من يجمع زهوراً (حشيشة أيوب) فيبلّها بالماء ليلة الأربعاء وتغسل في الصباح وجوه الأولاد بمائها.

ويحتفل الدمشقيون والمصريون بأربعة أيوب ويمارسون خلالها عاداتٍ قديمة. فقد ذكر إدوارد لين أن المصريين يستحمّون بالماء البارد ويدلّكون أجسامهم بنبتة رعرع أيوب أو غبير أيوب، تقليداً لما تناقلوه من أنّ أيوب حكّ جسمه بالرعرع فشفي، علماً بأن أربعة أيوب المصرية تقع في موسم شمّ النسيم الذي اتخذوه تقليداً لعيد فرعوني واعتبروه رأس سنتهم.
أمّا في دمشق فقد كانت النسوة تخرجن جماعاتٍ يوم "أربعة المرتعشة" وهي عند البعض آخر أربعاء تسبق عيد الفصح الشرقي، وساد اعتقادهن بأنّ التي تبقى في بيتها ذلك النهار تتعرّض للأمراض والصداع طيلة عامها إضافةً لتعرّضها للإصابة بالرعشة .
فأربعة ايوب تقع في فصل الربيع الذي تحتفل الشعوب بقدومه منذ القدم بأشكالٍ مختلفة وأساسها فكرة الخلود وتجدّد الحياة. وقد لحظ الانسان البدائي عودة الحياة إلى الارض بعد موتها في فصل الشتاء فاعتقد بفكرة قيام الإله من الموت، كما جرى لديونيسيوس اليوناني وسيبل الروماني واوزيريس المصري وتموز السومري البابلي، الذي هو أدونيس الفينيقي الذي سمي نهر ابراهيم باسمه وكانوا يرمون دمية في البحر قبالة النهر في بدء فصل الربيع ثم يحتفلون بقيامته، فألّفوا في ذلك أسطورة أدونيس ومعشوقته عشتروت ربة الخصب والحب .
واختلف موعد الاحتفال بين شعبٍ وآخر تبعاً لاختلاف المواسم الزراعية والظواهر المناخية. فقد يقع مبكراً في أواخر آذار (مارس) وقد يتأخر إلى أواخر نيسان (أبريل) واعتبروا يوم الاحتفال بدءاً للسنة الجديدة. فالبابليون احتفلوا في شهر نيسان واليونانيون خصّصوا نيسان إلهاً للحب والجمال وقيل أن لفظة أبريل مأخوذة من اليونانية ومعناها الربيع.
في حين أن النوروز هو يوم الفرح عند الفرس وهم يعتقدون أنّ من أكل الحلوى ذلك الصباح وتدهّن بالزيت عاش سعيداً طوال العام. وهم يتراشقون بالماء ويتهادون بالزعفران (النبات الأصفر). وسمي نوروز من "نو" أي الجديد و"روز" أي اليوم. روى البيروني أنه في اليوم المذكور أمر جمشيد (شاه بلاد فارس) رعيّته بالاغتسال بالماء ليتطهّروا من الذنوب ويدفع الله عنهم آفات السنة. وروى ابن أبي دينار أن التونسيين كان لهم يوم في أول شهر أيار، يخرجون فيه إلى مكان يُسمّى "الوردة" يجتمع فيه أهل الخلاعة والبطالة ويكثرون من المجون. وكان النظام التربوي العثماني يلحظ يوم عطلة يسمى يوم الربيع وهو أحد أيام تزهير شجر المشمش، فيخرج التلامذة في نزهة حول المدينة. يُذكر أن العثمانيين حدّدوا بدء سنتهم المالية في شهر آذار وسميت السنة المارتية ولا تزال بعض الدول حتى اليوم تحدد بدء موازناتها في فصل الربيع.

والرأي السائد في بيروت أن أربعة أيّوب هي آخر الأربعاء التي تسبق عيد الفصح الشرقي (لدى الروم) (أو آخر أربعاء في نيسان) وقد روينا أن النسوة كنّ يسألن "خدرج" أي خديجة العيتانية (وليست حدرج ) عن موعد الأربعاء المذكورة، فكانت بدورها تسأل الراعي الأرثوذكسي لكنيسة مزرعة المصيطبة (أطلق اسم مزرعة على مناطق بيروت القديمة) عن موعد عيد الفصح، فتعرف وقت أربعة أيوب. ثم تبعث فتخبر ذلك لصديقاتها في مختلف محلات بيروت كخديجة لبّش (سلام) وسعدى الدارة (الدوارة) وأم زكّور للقاء في الرملة البيضاء مع الأولاد وطيّاراتهم الورقية. واعتبرت النسوة أن خدرج هي المؤقتة الشعبية لأربعة أيوب وكانت تسهّل الأمر عليهن وتقول للعاميات منهن: اذا رأيتن السيرج يسيل من البيوت فاعلمن بأنها أربعة أيوب. عرفت خدرج بأنّها ممّن عرفن في بيروت بـ"أخوات الرجال" أي صاحبات الهمّة والحنكة وتحمّل المسؤولية، وكان لها ولدٌ وحيد مدلّل أرادت أن تفرح به وتحمل أولاده في حياتها، فزوّجته إحدى بنات المصيطبة قبل أن يجد عملاً ودخلاً. وكانت المسؤولة عن نفقات أحفادها فإذا سُئلَتْ عن أحوال ابنها قالت "عليه التبزير وعليّ التعتير". أمّا اختيارها بنتاً من محلّتها، فيعود لأن وسائل الاتصال بين المناطق في بيروت لم تكن قديماً مؤمنة وسريعة، فإذا جاء لبنت من رأس بيروت خاطب من المصيطبة رفض أهلها تزويجها قائلين "غربة" أي أنها ستتغرّب بعيداً عن بيت أهلها.

أما "السيرج" الذي أشرنا اليه فهو زيت السمسم الذي يدخل في طبخ المفتقة. وهذه نوع من الحلوى مؤلفة من الأرز والطحينة والسكر والماء والعقدة الصفراء. ويتطلب طبخها وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً لأنها بحاجة إلى تحريك مستمرّ حتى يفقس السيرج أي ينفصل -ينفتق- ومن هنا سُمّيت المفتقة. وتتشارك عدة نسوة في طبخها ويتساعدن مداورة في تحريكها ثم تسكب في صحونٍ وجاطات توزّع على الأهل والجيران وتُحمَل إلى مكان الاحتفال. ولا تعتبر الطبخة ناجحة إلّا اذا فقس (انفتق) السيرج. أذكر وأنا صغير طبخت والدتي المفتقة وحمّلتني جاطاً منها الى بيت عمّتي أم مصطفى الفاخوري في كرم الغزاوي برأس النبع. وكان الجاط موضوعاً في كيسٍ من الورق، فحملته من بيت أبي في الخندق الغميق سيراً إلى رأس النبع بين رباعات الصبير، ولمّا وصلت قرعت جرس الباب الخارجي – باب الزقاق– ففتح بشد الحبل من الداخل ودخلت حتى الباب الداخلي وهممت بالدخول، فصرخ صوت من الداخل يقول: وئي عبد شلاح صباطك! فرفضت ووضعت الكيس أرضاً وأسرعت بالخروج فناداني صوت من داخل البيت: وئي ... وين السيرج؟ فقلت أي سيرج لا أدري هذا ما حملتني إيّاه أمي وبخاطرك. (كان السيرج قد سال خلال الطريق وبلّل كيس الورق). وعندما أعلمت أمي بما جرى فوجئت وقالت "هلق بيقولوا الطبخة فاشلة".
والعقدة الصفراء كما تُسمّيها العامة مستخرجةٌ من نبات الكركم وهو من العروق الصفر يحتوي على نسبة كبيرة من الزيت. وهو يُزرَع بكميات كبيرة في الهند وقد شرب الفراعنة مغلي أزهاره لعلاج الاستسقاء واستعملوا مسحوق بزره لبخات كما وصف أطباء العرب مغلي أزهاره لأمراض الكبد والطحال وكمراهم. وله رائحة عطرية وطعمه حار يحتوي على مادة ملونة تعرف بالعصفورين وعلى مواد زيتية وهو فاتح للشهية ومدر للبول ومساعد على الهضم.

تشكّل الشعائر والطقوس التي تُمارس في أربعة أيوب رموزاً لأشياء عديدة. فالواضح أن الاغتسال بماء البحر هو تقليد لاغتسال النبي أيوب بالماء وشفائه. وهنا تبدو المعتقدات الخاصة بماء البحر والعلاقات الضيقة بين السحري والمقدس فالطب هو ابن السحر. وقد تمثّل اللجوء إلى البحر في عدة ممارسات مثل رمي أول قصة شعر للمولود في البحر لنوال البركة وإزالة مفعول السحر، وفكّ الربط بشرب سبع غبّات من ماء البحر أو الاغتسال في سبع موجات متتابعة. وكانت العاقر تلجأ إلى البحر فتملأ فمها زيتاً وتدخل في البحر ثم تلفظ الزيت فيه.

ولا نزال نذكر لجوء البصّارات وقارئات البخت إلى استقراء المستقبل بواسطة رمي الودع لمّا منحت الأساطير للودع (خرز أبيض أجوف مشقوق من الوسط) من قوى حتى قيل أن أفروديت ربة الحب والجمال تكوّنت في أحشاء الودع، وأن له قدرة على جلب الرزق وكشف السر ودفع الشر. وقد أشرنا إلى أن العامّة كانت تجمع الحشائش وتنقعها بالماء ثم تغسل بها الوجوه بما يذكّر بما قام به أيوب من حك جسمه بنبات الرعرع ثم الاغتسال للتطهير من آثار المرض ومن أدران الشتاء.أمّا الرمز الثالث فيتمثل بأكل الحلوى –المفتقة– لما تمد الجسم الخارج من الشتاء بالوحدات الحرارية والطاقة سواء بما تحوي من السكّر أو ممّا يحتويه نبات الكركم من منافع وكأني بآكل المفتّقة يقول لها: خذي مني اصفرار المرض والضعف وامنحيني حمرة الصحة والعافية .

*مجموعة تراث بيروت - بتصرّف

  • العدد رقم: 359
`


عبد اللطيف فاخوري