المواجهة مفتوحة: فلنسدّد في الاتجاه الصحيح

تشهد منطقتنا العربية حالة مواجهة مفتوحة في غير ساحة ضد الهجمة الإمبريالية للهيمنة على المنطقة وشعوبها، وهي تتخذ أشكالاً وأساليبَ متعددة ومتنوعة؛ من انتفاضات وحراكات شعبية سلمية وصولاً إلى المقاومة المسلّحة ضدّ الإمبريالية مباشرة، وضدّ مشروعها الشرق الأوسطي، وأدواتها من أنظمة رجعية عربية وقواها الطبقية البرجوازية المسيطرة محليّاً، وكيان صهيوني مغتصب...

من فلسطين إلى لبنان والعراق وسوريا واليمن والسودان والجزائر... مواجهةٌ تترافق مع دخول مباشر لكل الدول المؤثرة، الدولية منها والإقليمية، وأحياناً عبر جيوشها، ليتبدّى في هذه المرحلة الانتقالية التي تمر بها المنطقة بأنّ ثمّة مؤشرات لها دلالاتها في غمرة هذا الصراع تنمّ عن تغييرٍ في موازين القوى لغير مصلحة المشروع الأميركي، ما سينعكس تأجيجاً للصراع وعلى مستقبل المنطقة ومستقبل شعوبها.
فالمشروع الغربي، بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، لم يستطع حسم المعركة لمصلحته رغم كل الضغوط السياسية والعسكرية والعقوبات الاقتصادية؛ ويمكن القول، بأن الضربات التي وجهتها له القوى المواجِهة لمشروعه قد نجحت في منعه من التقدم وتحقيق أهدافه، لكنّها لم تتمكّن من هزيمته حتى اليوم، حيث يستمرّ في تنفيذ صفقة القرن وإطلاق عملية التطبيع "كمؤتمر البحرين" وغيره من الأنشطة التطبيعية المتنقلة من بلدٍ إلى آخر، وفي عرقلة الحلول السياسية لأزمات المنطقة وإدخالها في حرب استنزاف طويلة الأمد، مع استخدام كلّ أشكال الضغط السياسي والعسكري والحصار والتجويع وفرض العقوبات الاقتصادية. وما الساحات السورية والفلسطينية والعراقية واللبنانية وتكثيف زيارات المسؤولين الأميركيين إلى المنطقة، إلّا مؤشر حقيقي على ما يمكن أن تكون عليه نتائج تلك المواجهة المفتوحة التي بانت ملامحها جيداً، ولو طالت نهايتها بعض الشيء، إذ لا يمكن "للبلطجة الأميركية"، المتمادية في عدوانها، التسليم بعجزها عن الحسم من دون المكابرة أو تعظيم كلفتها، ما سوف يفرض عليها في النهاية الرضوخ واللجوء للتفاوض، كالذي يحصل الآن مع إيران، لكن ليس من موقع الآمر الناهي بشؤون المنطقة.
إنّ مواجهة السياسات الإمبريالية في المنطقة، معطوفة عليها السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، والتي بأكثريتها تستجيب لإملاءات صناديق النقد والتجارة والديون المرتبطة بشروط رأس المال، لا يمكن أن تكون إلّا من خلال نظمٍ سياسية تقوم أساساً على منطق المواجهة المزدوجة: بين متطلبات الداخل وموجبات تحدي مشاريع الخارج، وبالتحديد المشروع الغربي في المنطقة. هذا الكلام ينطبق على سوريا والعراق ومصر ولبنان واليمن وفلسطين وغيرها من البلدان، التي وقعت تحت مفاعيل تلك المشاريع ولا تزال، لأن محدوديةَ المواجهة أو تجزئتها واقتصارها على قضايا محدّدة وساحات منفردة، سوف يُضعِفها، ويجعل من التشرذم عنواناً دائماً، ما سيؤثر في مآلات الأمور وتطوّرها. من هنا، كان الأجدى أن يُطلقَ العنان للشعوب العربية، للمواجهة، كي تقودها وعلى حدود ثلاثة: الداخل، من خلال إقامة نظم سياسية لمصلحة الأكثرية الشعبية وتطلعاتها في سبيل بناء دول وطنية ديمقراطية، والخارج، من خلال ضرب ذلك المشروع الذي يهدف إلى الهيمنة، ومن الموقع النقيض الذي يقوم على التحرّر الوطني الرافض لكل أنواع الاستتباع والهيمنة، والوحدة، من خلال تجميع كل موارد القوة، كي تصبح المقاومة قادرة وواحدة وشاملة تضم كل الساحات والقضايا من خلال التكامل بين الحدّين السياسي والاقتصادي، كإطلاق سوق عربية مشتركة هدفها بناء مظلة اقتصادية لمحاربة الفقر ومنع التبعية، كأساس مطلوب البناء عليه.
وعلى هذا الأساس، تصبح المقاومة خياراً سياسيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً؛ فكلّية المواجهة، وتشابك القضايا والساحات والمواضِع، تجعل إمكانية الانتصار فيها متوافرة. مقاومة عربية شاملة، هو مشروعٌ لتجميع كل من أراد التصدي لهذا المشروع ومن الموقع النقيض وبكلّ الإمكانيّات، وعلى مستوى كلّ الساحات المتاحة للمواجهة، ومكانٌ لتقاطع كلّ الجهود؛ مقاومة تُعيد إلى الأذهان مقولة بأن للشعوب حقوقاً في المقاومة والتحرر والتحرير، وهذا المفهوم، لطالما جرى العمل على طمس معالمه، ليس لسبب إلّا لتثبيت ثقافة اليأس وتعميمها كقدر لا خلاص منه.
إن ما يُرسَم للمنطقة اليوم، رُسِم منذ قرن من الزمن، وما يجري حاليّاً هو تعديل تلك الخرائط كي تتلاءم ومستلزمات تأبيد النظام العالمي الأحادي القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية. لقد جهد أصحاب المشروع "الأم-الأساس" لتوفير كل مستلزمات النجاح لمسعاهم، وهم مستمرّون، وعليه تصبح المواجهة المطلوبة أكثر من ضروريّة: فمشروع تقسيم سوريا مستمرٌّ، وفي العراق حدود المذاهب والطوائف والأعراق مرسومةٌ بالجغرافيا، لكن من دون إشهار، أمّا القضية الفلسطينية، فها هي تُسلَّم مجدداً إلى جلّاديها، مدعومةً هذه المرة بتآمر عربيّ رجعيّ كبير.
إن تنفيذَ صفقة القرن، يستوجب المزيد من الفوضى والمزيد من الضعف العربي وتشرذم القوى؛ لتصفية القضية الفلسطينية وما صدر مؤخّراً عن الإرهابي "ديفيد فريدمان" حول ضمّ الضفة لا يمكن فصله عمّا سبقه حول القدس والجولان المحتلين؛ فإرهاصات تلك الصفقة بانَتْ معالمُها، تسريباً وتلميحاً وتنفيذاً. صحيح أنه حتى الآن ليس هناك غطاء فلسطيني لها، إلّا أن هذا الواقع لا يكفي، بل يتطلّب تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية على أساس تغليب خيار المقاومة ووضع خيار السلطة في خدمة المقاومة ضد الاحتلال ومشاريعه العنصرية والتوسعية. ولنا في مقاومة الشعب الفلسطيني وأسراه، وفي مسيرات العودة المستمرة والعمليات البطولية للمقاومين ضد الاحتلال، والتصدي البطولي للمقاومة الفلسطينية بكلّ فصائلها في الضفة وغزة ضدّ الاعتداءات الصهيونية أمثلة ساطعة عن القدرات والإمكانيات المتوفرة لدى الشعب الفلسطيني في الصمود بوجه الاحتلال ومنعه من تحقيق أهدافه.
إنّ العدوان الأميركي، وتحديداً الحصار الاقتصادي والمالي، على دول المنطقة وشعوبها من خلال العقوبات والحظر (إيران، سوريا، لبنان وفلسطين...)، بات يشكّل الوسيلة الأساسية، التي تُضاف إلى تهديداته بشنّ الحرب والعدوان، وهو إن دلّ على شيء، فإنما يدلّ على مسألتين رئيستين: أوّلهما، هو تعبيرٌ واضح عن تفاقم أزمة النظام الرأسمالي، والتي تحاول الولايات المتحدة الأميركية معالجتها عن طريق نهب خيرات الشعوب وثرواتها، أمّا الثانية، فهي أن الأنظمة التابعة للإمبريالية، تعود بدورها، لتفرض على الشعوب المقهورة، وفق تعليمات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، سياسات الافقار وفرض الضرائب واتّباع نمطٍ اقتصادي ريعي، تتعرّض بموجبه هذه الشعوب لاستثمار مزدوج: محلي، من قبل سلطتها الوكيلة للإمبريالية، وخارجي، من الإمبريالية نفسها، وهو ما يعطي أهميةً سياسية للحراكات الشعبية التي تقوم بها شعوبنا العربية من السودان إلى الجزائر إلى فلسطين وصولاً إلى لبنان الرازح تحت خطر الانهيار المالي بسبب هذه السياسات، وما يجري اليوم بحقّ الشعب السوداني الثائر والمنتفض من تنكيلٍ وقمعٍ وإجرام من قبل المجلس العسكري-الانقلابي، لهو أبلغ دليل عمّا وصلت إليه حالة التبعية الوظيفية في الدور السياسي للعديد من النظم الرسمية الحاكمة بأمر من ذلك اليانكي المجرم. من هنا، فإن دعم الشعب السوداني وحركته الوطنية والشعبية هي مسؤولية تاريخية أمام كلّ أحرار العرب والعالم وقواهم الوطنية والتقدمية وفي الطليعة منهم قوى اليسار.
******
إنّ العملَ الإرهابي الإجرامي الذي حصل مؤخراً في طرابلس، والذي أدّى إلى استشهاد أربعة من أفراد وضبّاط الجيش والقوى الأمنية، والحوادث الأمنية المتلاحقة والمتزامنة من البقاع إلى الجبل إلى حاصبيا، تحكمها تلك الأسباب وتلك الجذور المتمثلة بإبقاء شعوبنا في دائرة التخلف والجهل والتبعية والفكر الظلامي؛ هي رسالة واضحة تصب في خدمة المشروع الأميركي ولمصلحة الكيان المحتل. لقد تعاطت السلطة الحاكمة مع هذا الملف بمنطق الكيدية وتسجيل النقاط بين مكوناتها، بدل أن تجعل منه مناسبة لإعادة صوغ موقفها السياسي والأمني والاقتصادي ربطاً بما يحدث في المنطقة من تطورات، إضافة إلى التهديدات المتواصلة على لسان قادة العدو بضرب لبنان وبناه التحتية تحقيقاً للأطماع الصهيونية المعلنة في إعادة ترسيم الحدود البرية والبحرية، والدور الأميركي المشتبه فيه في هذه المسألة، وأيضاً كما حصل ويحصل في نقاش الموازنة والسياسات المالية والتنافس الحاصل بين من يريد فرض الضرائب على شعبه أكثر من الآخر، كل ذلك يجري بدلاً من الاعتراف بفشل هؤلاء جميعاً وعلى كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية.
أمام هذا الواقع المعقد، وعلى أبواب الاحتفال بيوم الشهيد الشيوعي في الحادي والعشرين من هذا الشهر، فإننا مطالبون ببذل كل الجهود لصوغ موقف واضح من كل تلك التطوّرات المستجدة في المنطقة وأخذ الموقف المناسب منها، المستند إلى برنامج عمل واضح وهادف لبناء كتلة شعبية من كلّ المتضرّرين، في إطار أوسع تحالف سياسي-اقتصادي-اجتماعي، يضع تصعيد المواجهة في الشارع ضدّ الموازنة الحكومية في طليعة أولويّاته، وبذلك نكون قد أعطينا كلّ تلك الدماء التي سالت حقها من الوفاء والتقدير. هي مسؤولية تاريخية يجب المبادرة لتنفيذها وتحمّل مسؤوليتها، مسؤولية تأخذ في الاعتبار مواجهة العدوان والسياسات المرتبطة والتابعة سياسياً واقتصادياً، والعمل على تمكين القوى الوطنية واليسارية والنقابية والاجتماعية والشبابية والنسائية... من أخذ دورها كي تكون قاطرةً لمشروع تغييري حقيقي وفاعل، بديلٍ عن السائد ونقيضٍ له.
* عضو المكتب السياسي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني

  • العدد رقم: 359
`


حسن خليل