يرتبط "مسلسل" تشكيل الحكومة بموضوع المعركة الرئاسية المقبلة والخلافات حولها، وما يمكن أن يتجه إليه الوضع في حال عدم حصول الإنتخابات ووصول البلد إلى الفراغ الرئاسي، بحيث تؤول السلطة التنفيذية إلى مجلس الوزراء حسب نصوص الدستور، كما يرتبط بالخلافات حول تفسير المواد الدستورية في ما يتعلق بدور كلّ من الرئيسين في موضوع التشكيل، ويترافق مع عمليات "شد العصب" الطائفي على أبواب الإنتخابات، حيث أن أطراف المنظومة الحاكمة تعمل وفق هذه الوجهة في ظلّ الإنهيار، في محاولة لإستعادة جمهورها من خلال إستثارة العصبيات الطائفية، ومن خلال إستخدام المنابر الدينية والمؤسسات الطائفية ووضع "الخطوط الحمراء" حول كلّ قضية، كما أن تسارع الانهيار والخشية من حصول الإرتطام أو الإنفجار الاجتماعي بوجه الحكومة، تدفع المعنيين بالتشكيل إلى "توقيته" بعد الإرتطام لتأتي الحكومة كحكومة "إنقاذ". لكن كلّ هذه المسائل التفصيلية تعود إلى المحاصصات الطائفية التي حكمت وتحكم التشكيل، وهي تؤشّر أن الموضوع ليس أزمة حكومة، بقدر ما هو أزمة نظام تنهار مؤسسات دولته الدستورية وقطاعاتها كافة.
بالتزامن مع ذلك فإن كلّ المؤشّرات تدلّ على أن الوضع الإجتماعي والحياتي ونظام الخدمات يتجه نحو المزيد من التدهور في كلّ المجالات، بما ينذر بكوارث ومخاطر وأوضاع مأساوية.. ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- بدأت المرحلة الأولى من عملية "رفع الدعم" وهي ستنتهي في آخر أيلول، دون أن تتبلور أية بدائل فعلية، مما سيترك تداعيات إجتماعية تصل إلى حدود العوز والجوع والفقر المدقع.. وإذا كانت آليات ما سمي بالدعم قد صبّت بشكل كبير في صالح كبار المستوردين والتجار وكارتيلات الإحتكار في المحروقات والدواء والطحين والمواد الغذائية، ومافيات التخزين والتهريب المحمية من قوى السلطة، إلّا أن "العلاج" يتطلب تحميل المنظومة الحاكمة وأخطبوطها المالي الثمن فهي من نهبت ما يقارب 110 مليار $ من أموال اللبنانيين، وليس عبر ما يُطرح من "تحرير" للأسعار طال وسيطال بآثاره غالبية اللبنانيين الذين تبخرت رواتبهم وأجورهم وبخاصة من يتلقّون مداخيلهم بالعملة الوطنية أو من المعطلين عن العمل جزئيا أو كلياً.
- شهد القطاع المصرفي بحماية ورعاية الطغمة المالية وحاكمية مصرف لبنان وبالتكافل والتضامن مع غالبية أطراف المنظومة الحاكمة أكبر عملية سرقة و"نصب" طاولت أصحاب الودائع الصغيرة، فيما تمّ تهريب الأموال المنهوبة واتّخذت إجراءات وصدرت تعاميم استنسابية إقتطعت المزيد من "جنى العمر"، وجرى اعتماد أسعار صرف متعدّدة للعملة الأجنبية وجرت "هندسات مالية" لصالح رؤوس الأموال الكبيرة والمافيات المصرفية.
- تنهار تدريجياً مؤسسات الدولة حيث يطال الإنهيار معظمها باستثناء القوى الأمنية تقريباً التي يجري استخدامها في عمليات القمع وفي محاولات تلميع صورة قوى المنظومة الحاكمة، أو طرح بدائل تحظى برعاية دولية.
- أزمة المحروقات ترخي بظلالها على جميع المجالات ويتم التعامل معها بموافقة كلّ أطراف المنظومة الفاسدة، على تحديد سعر الصرف للمحروقات ب 8000 ليرة للدولار الواحد قبل رفع الدعم الكامل أواخر أيلول، لتحقيق أرباح خيالية لشركات الوقود التي تمتلكها مافيات مالية وسلطوية وتُدار من خلالها عمليات الإحتكار والتهريب إسوة بمحتكري الدواء والسلع الغذائية وأبسط الضرورات الحياتية للبنانيين. وضمن هذا السياق العام لتعاطي المنظومة الحاكمة مع أزمة المحروقات، جاءت خطوة باخرة الشحن الإيرانية لتطرح الحاجة السياسية للتغيير الذي يربط هذه الخطوة بإطار مشروع بناء الدولة الوطنية الديمقراطية القادرة على توفير الحلول للأزمة الشاملة بما في ذلك توفير الحاجات الأساسية للشعب اللبناني وتنويع مصادر الإستيراد من أي بلد كان، ومواجهة الضغوط الأميركية، أي الحاجة بأن تترافق هذه الخطوة مع مواجهة منظومة النهب والإحتكار والإفقار وعدم التحالف معها وحماية نظامها. فالمعركة واحدة لا تتجزأ في الداخل والخارج، إذ لا يمكن مواجهة الإمبريالية ونحن في أحضان رأسمالية تابعة لها، إلّا في إطار التفتيش عن حصة تحت سقف نظام سيطرتها.
- مع بروز وتفاقم أزمة المحروقات، تتعطّل الكهرباء بشكل شبه كليّ، ويعود الأمر إلى السياسات التي اعتُمدت والتي عطّلت إنشاء معامل جديدة ومصادر طاقة بديلة، حيث دُمّر نظام الكهرباء العام بما أدّى إلى تفريخ مولّدات الأحياء في كلّ مكان، إضافة إلى خصخصة من نوع آخر، تفوح منها رائحة الفضائح، من خلال صفقات الفيول والبواخر المستأجرة.
- أزمة المياه: تمّت خصخصة مياه الشفة من خلال تسليمها لشركات التعبئة والتوزيع عبر الصهاريج، كما ربطت بالكهرباء وبالطاقة، من خلال المضخّات، بدل الإعتماد على الجاذبية الطبيعية في نقلها. ومع أزمة المحروقات، يتمّ دفع أكثر من أربعة ملايين شخص إلى اللجوء إلى مصادر غير آمنة ومكلفة للحصول على الماء، بما يعرّض الصحة العامة للخطر، وقد يشهد لبنان زيادة في الأمراض المنقولة عبر المياه، بالإضافة إلى زيادة في عدد حالات كورونا.
- تدمير النظام التعليمي: يتم تفريغ لبنان من الكادرات التعليمية والتقنية لعامين متتاليين مع فشل التعليم الحضوري والتعليم عن بعد لعدم توفير الوزارة مستلزمات الحالتين، وتهاجر آلاف العائلات الشابة، في ظل هذه الأوضاع، وفي ظل تواطوء قيادة روابط المعلمين مع السلطة، ويُصرف آلاف المعلمين من المدارس الخاصة مع ازدياد مخاطر عدم تطبيق الضمان التربوي، فيما يتخذ وزير التربية في حكومة تصريف الأعمال قرارات العودة إلى المدارس دون تأمين أبسط المتطلبات الضرورية ودون لحظ تداعيات الإنهيار على المعلمين والطلاب والأهالي والنقل ومستلزمات الدراسة.
- تفاقم أزمات القطاع الصحي والإستشفاء وتحكّم كارتيلات الدواء .
- تدهور قطاع الإتصالات وخدمات الأنترنت وإنهيار قطاع النقل مع تدمير قطاع النقل العام.
- تبخّر قيمة الرواتب والأجور ومعاشات التقاعد وتعويضات الصرف ونهاية الخدمة وفقدان فرص العمل والمشاكل المتعلقة بالصناديق الضامنة
- تعثّر القطاع الزراعي وأنظمة الري المعتمدة على الطاقة، وإزدياد تكاليف الإنتاج.
- حروب الإبادة على اللبنانيين كما في مرفأ بيروت وكارثة عكار وصولاً إلى إفقارهم وتجويعهم وإذلالهم فيما يتم العمل على تحصين أعضاء السلطة الحاكمة ضدّ كلّ مساءلة ومحاكمة. وحتى عندما تجري عملية تلميع صورة بعض الأجهزة أو المسؤولين من خلال عمليات دهم مستودعات الأدوية والمحروقات المخزّنة، فإن المرتكبين لا يخضعون للمحاكمة، بما يظهر فضيحة إحتكار المواد الأساسية من قبل المنظومة الحاكمة وأذرعها في المحروقات والدواء، في حين يتم التغاضي عن الإحتكارات الكبرى المحمية من قوى السلطة.
على كلّ ما تقدّم، يمكن القول أن هذا الانهيار الشامل لكلّ قطاعات الدولة وخدماتها العامة دليل على فشل سياسة المنظومة الحاكمة التي كانت تستهدف تقويض دور الدولة ووظيفتها الوطنية ورعايتها الإجتماعية، عبر السرديات التي روّجت لها بأنّ "الدولة ربّ عمل فاشل"، فها نحن نرى سقوط سياسة الخصخصة في كلّ القطاعات على مستوى تردّي نوعيتها وزيادة كلفتها، في التعليم والصحة والنفايات والمحروقات والكهرباء والمياه والإتصالات والنقل.
ومع عجز السلطة عن المعالجة ولجوئها إلى القمع والتخويف والتضييق على الحريات وعدم محاكمة المرتكبين وتسييس القضاء، وأمام حالات الإنفلات السياسي وإستخدام التوظيف المذهبي والمناطقي في إستغلال حالات الإنهيار الحاصلة، ومع انفلات الوضع الإقتصادي وتدهوره، يبرز أمامنا خطر الإرتطام وأولويات المهام المستحقّة وضرورة المبادرة إلى طرح القضية الإجتماعية، وخوض الصراع بخطاب سياسي قائم على مواجهة المنظومة السياسية بنظامها وقواها وأدواتها وسلوكها، وعلى الدعوة إلى تشكيل اللجان الشعبية والمبادرات الأهلية والمؤتمرات في كلّ المناطق والأحياء، بهدف تنظيم المواجهة ومنع التوترات، وتوجيه الغضب نحو أصل العلّة والذي هو النظام وقواه، وتفعيل لجان المناطق والتوجّه نحو البلديات لتتحمّل مسؤولياتها في إطار الإنتفاضة بدل أن تنجرّ إلى الصدامات بين أهالي القرى، وتفعيل التحالف الإجتماعي والتحضير للإنتخابات القطاعية في نقابات وروابط الأطباء والصيادلة وأطباء الأسنان والمحامين والأساتذة الثانويين والمعلمين في المدارس الخاصة وفي التعليم الأساسي والموظفين الإداريين ورابطات المعلمين المتقاعدين في الثانوي والأساسي، وتحديد الشعار العام في إسقاط منظومة السلطة النقابية التي لم تقم بواجباتها في حماية أموال الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ولا أموال الصناديق الضامنة وكانت شريكة في تبديدها فضربت معاشات النقاعد وتعويض الصرف وحرمت أعضاءها من الطبابة والاستشفاء ونوعية التعليم، وعملت تحت إمرة مشغَلّيها من أحزاب السلطة وتحالف المصارف، وذلك من خلال اعتماد أشكال متنوّعة من النضال ضدّ هذا التحالف ونظامه السياسي القاتل، وأخذ المواجهة بالإتجاه الصحيح.
المواجهة واقعة ومستمرة، فلنخضها كما ينبغي.