برجا والإقليم: انتفض الليل على سواده

لا يمكنك توقع الكثير خلال الليل، تسعى جاهداً إلى حصر أفكارك وتكثيف تخايلاتك لكن الصورة الأوضح في الليل يسودها السواد. فتحاول مجدداً ومجدداً توسيع أفق تساؤلاتك معتمداً على سؤال مركزي "ما الذي يحدث؟"، ومن ثم تترجّل مجموعة متسلسلة من الأسئلة التي تخرج بتراتبية غريبة وكأنها جاهزة مسبقاً: "من؟ كيف؟ الآن؟ لماذا؟".

ويأتيك الجواب المختصر الذي يسبق كل الإجابات "مكان الشعب الطبيعي عندما يُظلم هو الشارع". وسرعان ما يبدأ السواد في الصورة من الانسحاب ليحلّ مكانه وضوح الخطوات التي تدنو مسرعةً للالتحاق بالشارع دعماً للمنتفضين. وصلنا مع مجموعة من الشباب إلى الأوتوستراد وكان قد سبقتنا مجموعة أخرى، الطريق مقفل بالإطارات المشتعلة وحالة من الغضب والرفض تسيطر على الموجودين من مختلف الفئات: عمال وأجراء مهندسين، محامين، سائقي تكسيات، طلاب جامعيين وعدد كبير من المتخرجين المُعطّلين عن العمل.

بالتشاور والاتفاق أتى قرار المعتصمين، لا عودة من الشارع ولا سكوت بعد اليوم على تصرفات وسياسات السلطة، وبناءً عليه تم الاتفاق على ضرورة بقاء عدد من الشباب لساعات الصباح الباكر عند بداية شروق الشمس، وهو الوقت الذي تعتمده القوى الأمنية في العادة للتدخل وفتح الطريق لأن الأعداد تكون أقل ويكون التعب والنعاس قد اجتاح صفوف المعتصمين، وبالفعل هكذا حصل وصل جنود الجيش اللبناني عند الساعة السادسة إلى نقطة القطع الأولى عند محطة الكيلاني، فترجّلوا من آليّاتهم وتعرّضوا بالضرب للمعتصمين بمحاولة منهم لفتح الطريق. فوصل الخبر إلى نقطة القطع الثانية التي تبعد حوالي ٤٠٠ متر عند مفرق برجا حيث كان هناك عدد أكبر من الشبان الذين تراجعوا خلف النيران المشتعلة واصطفّوا انتظاراً لوصول الجيش. وما لبث أن حضر جنود الجيش وكان اللافت استخدامهم السريع للقوة والقمع، فتوجه بعضهم نحو تلة محاذية للأوتوستراد وبدأوا برمي الحجارة من الأعلى على المعتصمين، أما الجنود الآخرين أطلقوا وابل من الرصاص الحي من بنادقهم، بعضها صعوداً في الهواء، وأخرى أطلقوها باتجاه الأسفل بين أقدام المعتصمين. وبعد عدة محاولات لتفريق الموجودين وعمليات الكر والفر، أعاد الشباب التجمع وجلسوا على الأرض بمحاولة منهم للتعبير السلمي، ولكن ذلك لم يمنع الجيش من التعدّي بالضرب والركل واعتقال عدد من المعتصمين، ما أثار غضب الأهالي الذين وصلتهم أخبار التعرض لأبنائهم المعتصمين وأدّى إلى تزايد عدد المعتصمين بشكل كبير. أُقفِل الطريق مجدّداً، وبالرغم من توقّع السلطة بفتحه خلال ١٤ دقيقة من التهويل، استمرّ قطع الطريق لأربعة عشر يوماً وتحوّل إلى ساحة لانتفاضة الإقليم، يتوافد إليها يوميّاً آلاف المعتصمين والمشاركين من مختلف مناطق الإقليم. فتحوّل الحراك العفوي والطارئ إلى إطار نضالي أكثر تنظيماً عبر شعارات مطلبية أكثر عمقاً وتجذراً في صلب الصراع الطبقي الحقيقي المحرّك للنظام اللبناني المتخفي تحت غطاء الطائفية التي حاول البعض استعادتها وضخّها داخل الاعتصامات بمحاولة لتشويه مسار الانتفاضة وتحجيم شعاراتها ومطالبها.

يوماً تلو الآخر زاد التنسيق والتنظيم بين الشباب المعتصمين وشكّلوا ما يشبه اللجان التنظيمية واللوجستية التي سعت إلى الحفاظ على مسار هذه الانتفاضة وحماية المعتصمين والحؤول دون وقوع أي إشكال أو استفزاز يمكن أن يؤثر على استمرار هذه الانتفاضة. وبالإضافة إلى هذه اللجان، كان هناك مجموعات تجتمع بهدف التخطيط والتنسيق في ما بينها بشكل يومي بغية تحديد نقاط قطع الطرق في أماكن مختلفة على طول الساحل، ضمن المسار الذى اعتُمِد في كل الحراكات على مساحة الوطن بهدف تعطيل وشلّ الحياة اليومية من حركة الموظفين والمستخدمين الذين تعرضوا لضغوطات قذرة تجبرهم على الالتحاق بأماكن عملهم بمحاولة بائسة من السلطة لفضّ الحراكات وإعادة الحياة بالبلد إلى طبيعتها وكأن شيئاً لم يكُن. استمر قطع الطريق والاعتصامات 14 عشر يوماً وسقطت الحكومة على إثره. تلا ذلك نقاشٌ بين المعتصمين حول خطة تسمح باستكمال الانتفاضة وترتقي بها نحو مستوى أعمق وأوسع، فكانت الاستعاضة المؤقتة عن إقفال الطرقات. وهذا ما تحقق في اليوم التالي مباشرةً حيث تحدّد مكان لاعتصام دائم في برجا ليكون مساحةً للنقاش والحلقات الحوارية ومكاناً لانطلاق المعتصمين نحو تسكير وإقفال العديد من المؤسسات الرسمية والخاصة والمصارف بإطار تنفيذ إضراب عام والضغط على السلطة لتشكيل حكومة انتقالية من خارج الطبقة السياسية والتي من مهامها اقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي ولبنان دائرة واحدة ومحاسبة الفاسدين والسارقين واستعادة الأموال المنهوبة. كما شهدت هذه الساحة اعتصامات حاشدة للطلاب من مختلف مدارس الإقليم، وبدأت الحركة بالتوسع والانتشار في مختلف مناطق الإقليم التي يجمع بينها إطارٌ من التنسيق والتواصل.